محمد صابر عبيد
انفتحت نظريات القراءة والتلقي على شبكة مفاهيم ومصطلحات جديدة للقارئ والقراءة والمتلقي والتلقي، وأشاعت ثقافة نقدية جديدة أعادت النظر في أهمية القارئ بوصفه مشاركاً بالعملية الإبداعية على نحو ما، وقد تحوّل مفهوم القراءة ليحّل عموماً محل النقد في السياق الثقافي الاصطلاحي.
وراجت ثقافة القراءة في عمليات التعاطي النقدي كثيراً حتى أصبحت البديل الاصطلاحي للثقافة النقدية، وراحت مفاهيمها تغزو السوق النقدية بحيث نادراً ما تجد من يتحدث بغيرها على هذا الصعيد، بحيث اختلط مفهوم القارئ الناقد بالقارئ القارئ في ظلّ تسيّد مصطلح القراءة وشيوعه وقوّة تداوله.
لا يمكن بأي حال من الأحول التغاضي عن المفهوم العام للقراءة بوصفها فعالية عامة يمكن أن يقوم بها أي شخص، وهو يتحرّى أهدافاً ومقاصد متعددة من وراء نشاطه القرائي هذا، والقراءة استناداً إلى هذا المفهوم ليست حكراً على الفعالية النقدية الصرف بل تتمتع بقدرٍ عالٍ من الشيوع والانفتاح، إلا أنّ التقنين الاصطلاحي الذي حصل بفعل تحوّل مفهوم القراءة إلى مفهوم نقدي بفعل نظريات القراءة والتلقي؛ التي حوّلت القراءة إلى منهج نقدي له قوانينه وتقاليده وقواعده، سلب القراءة في هذا السياق مفهومها التقليديّ العام وأدخلها في سياق جديد يخضع لمنظور رؤيويّ وثقافيّ، أخرج القراءة من دائرة الحرية القرائية التي لا تقوم على منهج وصارت تعاين بوصفها قيمة نقدية ذات خصائص نظرية جديدة.
يمكننا هنا أن نفرّق بين نوعين أساسين من القارئ هما القارئ الناقد والقارئ القارئ، على الرغم من أن منظّري نظريات القراءة والتلقّي وصلوا بتعداد أنواع القارئ إلى أكثر من عشرة أنواع من القرّاء، تنتهي في أعلى مراحلها بالقارئ النموذجيّ الذي يمكن أن يساوي لدينا هنا القارئ الناقد. القارئ الناقد هو القارئ الذي تعنى به نظريات القراءة على نحو مركزيّ وأساسيّ، لكنها لا تعطي مفهوماً واحداً له إذ هو يتنوّع بتنوّع القراءة وطبقاتها ومستوياتها وسياقاتها، لكنه على العموم هو الذي يتمركز في المنطقة النقدية التي تتعامل مع النصوص على أساس الرؤية النقدية الممنهجة. ويظلّ القارئ القارئ سائحاً في منطقة الحرية القرائية التي لا تلزمه بأية صيغة منهجية أو مناخ رؤيويّ، بل يتعامل مع المقروء بنشاط حرّ غير ملزم ومن دون أيّ منظور يحتّم عليه التوصّل إلى نتائج من خلال قراءته، كأن تكون القراءة خالصة للمتعة وتزجية الوقت وما يمكن أن يندرج في هذا السياق من فعاليات قرائية؛ لا تمتّ بصلة إلى العمل النقدي الفني والحِرفي والمهني.
لا شك في أنّ هذا التفريق ضروريّ لمعرفة الحدود النظرية والمنطقية للنشاط القرائي في فعاليته النقدية الصرف، من أجل إدراك الطبيعة النقدية لمصطلح القراءة في سياق وضعه عنواناً رئيساً للاشتغال على النصوص الإبداعية -تحليلاً وتفسيراً وتأويلاً-.
تحتاج العملية النقدية من أجل أن تبلغ أعلى مراحل إبداعها إلى مرجعيتين أساسيتين تضمنا لها ما يلزمها من القوّة والفنية والعلمية والتداول، ويمكننا أن نصنّف هاتين المرجعيتين بـ (الرصانة الأكاديمية)، (الحيوية النقدية). إذ يمكن للرصانة الأكاديمية أن تمنع الفعالية النقدية من الانسياق وراء الشهوات الانفعالية والانطباعية المجرّدة ذات ردّ الفعل السريع والأولي على التلقّي النصوصيّ، وتخضعها دائماً للتروي وتعميق النظر والمراجعة والتشدّد في الاطمئنان إلى الملاحظة، وتكثيف المعاينة وتركيز الفحص على الطبقات النصيّة والظواهر والحيثيات والهوامش والعتبات والمصاحبات، وكل ما من شأنه أن يكشف عن أعماق النصّ وجواهره ويسهم في فكّ شفراته.
إنّ الرصانة الأكاديمية ضرورية جداً للعمل النقديّ فهي الضابط المنهجيّ القياسيّ الذي يدرج العمل في سياق الإنتاج النصّي المتعالي، الذي يتوفّر على خصب الإنتاج وشعريته على النحو الذي يتحوّل فيه إلى أثر إبداعيّ يسهم إسهاماً فاعلاً في تكوين نظرية الأدب. إلا أنّ هذه الرصانة الأكاديمية وحدها لا تكفي للوصول إلى مرحلة من الإنتاج الإبداعيّ النقديّ يرتقي إلى هذا المستوى، لأنّ الاكتفاء بها حصراً ينتقل بالعمل النقديّ إلى فعالية بحثية قد تخلو من الحساسية الإبداعية التي تدخل في صميم العمل النقديّ وجوهره، ويسلّم بعد ذلك بإقرار توصّلات نقدية تحيل على القراءة العلمية المنطقية أكثر من إحالتها على المجال النقديّ بفضائه الأدبيّ
الإبداعيّ.
تظهر من هنا الحاجة الملحّة في هذا السياق إلى ما دعوناه بالحيوية النقدية، التي توفّر للرصانة الأكاديمية عمقاً نقدياً يحفظها من السقوط في حاضنة العلمية والمنطقية، الخالية من المرونة والحساسية الأدبية التي تبقي العملية النقدية في دائرة النقد الأدبيّ، وتدعم النصّ النقديّ بالشعرية الكافية لأن يتمايز عن أيّة فعالية أكاديمية صرف تسلبه حقه في الانتماء إلى هذا الحقل المستقل. وقد اقترحنا في كتابنا الموسوم (المغامرة الجمالية للنص الأدبي) مفهوما خاصا للمغامرة للتعبير عن مستوى معين من مستويات الحيوية النقدية، وقلنا بأنّ ((المغامرة على وفق هذه المعطيات وما تفرزه من مناخات وسبل وفضاءات ورؤى وألوان، وما تقترحه من آليات بِكر للانفتاح والتفاعل والحوار، هي جمال خالص يتمتع بالمرونة والتموج والتمظهر، ويعمل بوصفه مرجعية زاخرة بالثراء تموّن اللغة الشعرية بالعمق والكثافة وتغذيها بالأعجاز والفرح، على النحو الذي يقودنا إلى الإيمان بقدرة المغامرة على توفير فرص انعتاق حقيقيه لفلسفة الجمال من قيود التفلسف والمنطقة، لتحيا بحرية مطلقة في الأفضية الخلاقة للإبداع)).
يمكن وصف الحيوية النقدية بالمرونة القرائية المؤسَّسة على وعي أكاديميّ مرن وفعّال وديناميّ وتعدديّ، قائم على استيعاب الضرورات الأسلوبية التي يجب أن يتحلّى بها العمل النقديّ في نشاطه الكتابّي الميدانيّ، فضلاً عن أنّ هذه الحيوية النقدية يجب أن تتمتّع بالقدر الكافي من الكثافة والعمق والحساسية والثراء، على النحو الذي يجعلها قادرة على استيعاب الوافد الأكاديميّ بثقله المنهجيّ وتقاليده الرصينة، ومن ثم تمثّله والتفاعل معه بأسلوبية راقية فيها قدر عالٍ من التوافق والانسجام والتفاهم والتصالح بين الآليّات، من أجل الوصول إلى أفضل حالة قرائية يمكن أن تنتج أفضل الحلول للكشف النقديّ.
المصدر : صحيفة الصباح