المسرى..
إعداد: كديانو عليكو
يرجع موضوع لوحة “سوق الزواج البابلي” الى الكتاب الاول من التاريخ الذي كتبه المؤرخ الاغريقي هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، أي بعد أن سقطت الدّولة البابلية المتأخّرة وعاصمتها بأيدي الفرس الإخمينيين، حيث تحدث عن العادات والتقاليد التي شهدها اثناء زيارته لبابل. وأحد هذه العادات كان سوق الزواج البابلي، حيث تتجمع النساء الشابات، ومن ثم يقوم دلال بجلب الفتيات واحدة تلو الاخرى لكي يبيعهن في المزاد العلني.
تشابه الزواج
قام برسم اللوحة الرسام البريطاني إدوين لونغ عام 1875، ظهرت لأول مرة في الأكاديمية الملكية عام 1875 وأشاد الناقد الفني جون راسكن باللوحة وسلط الضوء على التشابه بين موضوعها وممارسات الزواج الأوروبية الحديثة. يتم الاحتفاظ بها حاليا في معرض الصور في كلية رويال هولواي.
حكاية اللوحة
وجاء في المقطع 196 في الجزء الأوّل من كتاب تاريخ هيرودوت المتعلّق بسوق الزّواج والذي أقتبس منه الفنان موضوع لوحته: “أمّا عن القوانين السّائرة عندهم فهذه هي : وأكثرها حكمة في رأيي ما سأذكره، يقام في كلّ بلدة ، مرّة كلّ عام حفل تجمع فيه كلّ الفتيات اللاتي بلغن سنّ الزّواج في نفس المكان، ويتجمّع الرّجال حولهنّ. ويطلب منادٍ كلّف بذلك منهنّ أن يقفن الواحدة بعد الأخرى يعرضهنّ للشّراء، ويبدأ بأجملهنّ”.
وبعد أن تباع بثمن باهظ، يعرض بالمزاد الثّانية الأقلّ منها جمالاً بقليل، وهكذا حتّى يبيعهنّ جميعاً لرجال يتزوجونهنّ.
تنافس على شراء الجميلات
ويتنافس رجال بابل البالغين سنّ الزّواج من الأغنياء منهم على الفتيات الأكثر جمالاً، أمّا النّاس البسطاء فلا يهتمون بالجمال، وتُعطى لهم مبالغ من المال إن تزوجوا بالفتيات الأشدّ قبحاً، وهكذا ينفق المال الّذي جمع من تزويج الجميلات لتزويج القبيحات وذوات العاهات.
قانون لحماية الفتيات
ولم يكنّ لأحد الحق في تزويج ابنته بمن يشاء، وليس لأحد الحقّ في اصطحاب الفتاة الّتي اشتراها من غير كفلاء يكفلون بأنّه سيتزوّجها. وإن لم يحلّ الوفاق بين الزّوجين فالقانون ينصّ على أن يعاد للرّجل المال الّذي اشترى به المرأة. وكان يسمح أيضاً لأهل البلدات المجاورة بأن يشاركوا في المزاد. وكان هذا قانوناً لا ميل له في الجودة ولكنّه أهمل الآن ولم يعد له استعمال. وقد تبنّوا منذ فترة قصيرة من الزّمن قوانين أخرى ليحموا بناتهنّ من أن تساء معاملتهنّ أو أن يأخذن إلى بلد غريب، فمنذ سقوط بابل الّتي نتج عنها خرابهم وتعاستهم، أجبر النّاس المدقعون في الفقر على دفع بناتهم للدعارة.
سوء فهم اللوحة ادى الى نجاحها
وعندما نقرأ ما نشر عن اللوحة بعد عرضها نجد أنّ الغالبية المطلقة من الّذين شاهدوها لم يفهموا عنوانها لأنّهم لم يقرأوا نصّ هيرودوت، وتصوروا أنّه رسم سوقاً للإماء تباع فيها النّساء وتشترى. وقد جاء جزء من نجاح اللوحة من سوء الفهم هذا ومن استنكار الزّوّار “المتحضرين” لهذه “الممارسات البربرية “، في حين أنّ هيرودوت ذكرها كأكثر القوانين حكمة، وتأسّف لأنّ أهل بابل تركوها بعد أن سقطت المدينة بأيدي الفرس.
التزام الدقة التاريخية في اللوحة
اللوحة مع ذلك أكاديمية كلاسيكية تقليدية التّنفيذ، لا تتعدى قيمتها الفنّية الدّقة البالغة في رسم الأشخاص والمهارة والتّحكّم بتوزيع الألوان والضّوء والظّل، وهذا ما كان يتقنه كلّ الفنّانين المحترفين ويبلغونه بعد سنوات طويلة من الممارسة والتّمرين. وما يميّز هذه اللوحة عن غيرها هو محاولة الفنّان التزام الدّقة التّاريخية فقد كان مشغوفاً بالآثار الشّرقية كونه فنان مستشرق كان مغرماً بالمنحوتات الآشورية التي تأمّلها في المتحف البريطاني في لندن والّتي رسمها في لوحته بتفاصيلها وجزئياتها وألوانها.
سوق الزواج البابلي في فيلم
وقد أستمرّ نجاح هذه اللوحة إلى بداية القرن العشرين فقد استوحاها المخرج والمنتج الأمريكي الشهير ديفيد غريفيث عندما أخرج في عام 1916 فيلمه الصّامت (التعصب: صراع الحب عبر القرون) ، المشهد الذي تُعرض فيه بطلة الفيلم للزّواج في بابل مأخوذ بالكامل بأشخاصه وديكوراته من لوحة إدوين لونغ.
تفسيرات عديدة
هناك تفسيرات عديدة للوحة ولكن أكثرها انتشاراً هو مدى قرب واقعنا في هذا القرن من حقبة تاريخية منذ 2500 عام.
في عصر لونغ كانت تنتشر الحفلات الراقصة حيث تتسابق الفتيات في التأنق للفوز باعجاب رجل ما في الحفلة. الأمر المشابه للأعراس الليبية او ما يسمى بـ “اللمة” حيث الأم تقوم بتوبيخ ابنتها العازبة اذا لم تكترث بمظهرها او تتزين بما فيه الكفاية، وكل هذا لكي “تنحط عليها العين” وتعجب بها النساء الاخريات لكي يختارنها زوجة او خطيبة لابنائهن او اخوتهن. موضوع الزواج لايزال حساس الى الآن.