المسرى
تقرير : هناء رياض
اكتشفت الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية أُسس مصلى من القرن الثاني عشر تحت مسجد النوري في مدينة الموصل.
وقال خير الدين ناصر، مدير دائرة الآثار والتراث في نينوى، إن تدمير مُصلى في مسجد خلال المعركة ضد تنظيم الدولة في الموصل بالعراق عام 2017، أدى إلى اكتشاف مهم، حيث تم اكتشاف أربع غرف صغيرة إضافية خلال الحفريات الأثرية، يعتقد علماء الآثار أنها كانت تستخدم للوضوء.
وأوضح أن “كل غرفة من غرف الاغتسال يبلغ ارتفاعها 3 أمتار وعرضها 3.5 متر”، مشيرا إلى أن الغرف التي تم اكتشافها على بعد 6 أمتار تحت المصلى متصلة ببعضها البعض، وهي مبنية من الحجر والجص.
وأضاف: “أساسات المصلى القديمة أكثر اتساعا من أساسات المصلى التي شُيدت عام 1942، وهو ما يمكن أن يفسر أن المسجد الأصلي كان أكبر”.
ولفت إلى أن المسجد شُيد في الأصل عام 1172، ثم أعيد بناؤه، معتبرا أن “هذا الاكتشاف المهم سيساعدنا في دراسة تلك المرحلة من الحضارة الإسلامية”، وفق شبكة “سي أن أن” الأمريكية.
وتابع: “نخطط لتغطية هذه الغرف المكتشفة حديثًا بالزجاج لحمايتها وفتحها أمام السياح المحليين والدوليين في المستقبل القريب”.
تاريخ الجامع الاموي
المسجد الجامع هو أول مسجد بني في الموصل حسب ما اكد الكاتب الموصلي سعيد الديوه جي في كتابه جوامع الموصل في مختلف العصور , وبناه عقبة بن فرقد السلمي سنة 16 للهجرة 638 للميلاد، حيث بنيت إلى جانبه دار الإمارة في المدينة.
ويقع المسجد في الجانب الغربي من الموصل القديمة، وتحديدا بمنطقة القليعات التي تضم قلعة باشطابيا الشهيرة في المدينة، ويبعد عن نهر دجلة قرابة 350 مترا.
ويتابع الديوه جي في كتابه أنه بعد أن ولى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ولاية الموصل لهرثمة بن عرفجة البارقي عام 22 للهجرة عمد الأخير لتوسيع المسجد الجامع وبنى حوله المساكن والأسواق، وذلك من أجل تحويل المدينة لأحد أمصار الدولة الإسلامية.
ويضيف الديوه جي أن الموصل شهدت بعد ذلك توسعا سكانيا كبيرا، ونتيجة لذلك ضاق المسجد بالمصلين، ليعمد بعد ذلك حاكمها مروان بن محمد الأموي لهدمه وإعادة بنائه وتوسعته من جديد، وكان ذلك في بداية القرن الثاني للهجرة، وسمي الجامع بعد توسعته “الجامع الأموي”، وكان يتسع لما يزيد على 11 ألف مصل.
السياسة وتأثيرها على خارطة المدينة
استمر الجامع على حاله حتى عام 167 للهجرة عندما أعاد الخليفة المهدي العباسي هدمه وتوسعته حتى صار يتسع لقرابة 20 ألف مصل، وهو ما يؤكده عالم الآثار الإسلامية الموصلي أحمد قاسم الجمعة.
وأضاف أن الموصل شهدت العديد من الفتن والاضطرابات الداخلية خلال حكم العقليين والسلاجقة في القرن الرابع الهجري، مما أدى لتقلص عمارتها وهجر الجامع الأموي بعد أن تعرضت أجزاء منه للانهيار، واستمر حال الموصل والمسجد الجامع (الأموي) على حاله حتى وطد الأتابكيون حكمهم في الموصل في منتصف القرن الخامس الهجري.
إلى أن مدينة الموصل في عهد الأتابكيين صارت من أمهات مدن العالم الإسلامي، حيث أعادوا إعمار الجامع عام 543 للهجرة الموافق لـ1148 للميلاد على يد سيف الدين الأول بن عماد الدين زنكي.
وتذكر المراجع التاريخية أن الأتابكيين عمدوا بعد أن بنوا الجامع النوري الكبير إلى تسمية المسجد الجامع “الأموي” بـ”العتيق”، لتمييزه عن الجامع النوري الذي سمي في بعض مراحل الدولة الأتابكية “المسجد الجامع” كذلك.
وعبر العصور تعرض الجامع للعديد من التجاوزات على حرمه، مما أدى إلى تقلص مساحته، ليشهد بعد ذلك إعادة ترميمه بالكامل من قبل مديرية الأوقاف العامة عام (1334هـ/ 1917م).
دخول داعش
وعن آخر ما تعرض له الجامع، يذكر الجمعة أن حرب استرجاع الموصل من تنظيم الدولة عام 2017 شهدت تدمير الجامع مرة أخرى بفعل العمليات العسكرية، إذ إن الجامع يقع في الموصل القديمة التي كانت آخر معاقل مقاتلي التنظيم خلال الحرب.
بدوره، يقول المفكر الإسلامي محمد الشماع إن أهمية الجامع الأموي تكمن في أنه من المساجد الأولى التي بنيت في العصر الإسلامي، وأول مسجد في الموصل.
ويتابع الشماع أن مساحة الجامع الفعلية كانت أضعاف ما هي عليه الآن، وكان محل اهتمام جميع الإمبراطوريات الإسلامية، مشيرا إلى أن الجامع يقع في منطقة تعد أصل مدينة الموصل الحديثة.
وعن تدمير الجامع خلال الحرب الأخيرة، يرى أنه رغم مرور قرابة 4 سنوات على استعادة الموصل من تنظيم الدولة فإن الجامع ظل مهملا دون أن يشرع ديوان الأوقاف أو حكومة محافظة نينوى في إعادة إعماره.
اكتشاف أثري تحت الجامع
عُثر على أطلال مصلى من العصور الوسطى تحت الجامع وبمساحة تفوق مساحة المصلى قبل تفجيره. كما عُثر على 5 غرف تحت الأرض متصلة ببعضها تتضمن أماكن للوضوء ومكتبة.
وبعد تخليص الموصل من تنظيم الدولة، شرعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” (UNESCO) في إعادة إعمار الجامع في مشروع أطلقت عليه “إحياء روح الموصل”، حيث بدأ الإعمار نهاية عام 2019.
وشهد إعادة إعمار الجامع تعقيدات كثيرة، لعل أهمها عمل فرق صيانة الآثار على جمع قطع الحجارة التي بني منها الجامع لاستخدامها مرة أخرى في إعادة إعماره، بحسب معاون مفتشية آثار نينوى خير الدين أحمد.
وبعد أن تم رفع الأنقاض من مبنى الجامع النوري وتوثيق كافة الأعمال العمرانية، وقطع الحجارة الأثرية وإحصاؤها والاحتفاظ بها في مخازن نظامية، كانت لدى المفتشية إشارات من بعض الكتاب والمؤرخين تشير إلى أن الجامع شهد صيانة لأرضية مصلى الجامع في السابق، مما حدا بفرق التنقيب بالبدء في التنقيب تحت أرض المسجد بحثا عن المصلى الأصلي.
“بعد 4 أشهر من التنقيب الدقيق، استطاعت فرق التنقيب الوصول لاكتشاف أثري مهم للمصلى القديم الذي يعود للفترة الأتابيكية، حيث يقع على عمق مترين أسفل أرضية المصلى الحالية التي تعود لأربعينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت آخر عمليات صيانة للجامع النوري”.
و أن مساحة المصلى الأصلية المكتشفة أوسع بكثير من المصلى الحالي، وتمتد للطرقات المحيطة بالجامع، إلا أنه ووفقا للجدول الزمني المتفق عليه مع منظمة اليونسكو، فإن التنقيب توقف عند هذا الحد مع بدء أعمال الصيانة للمكتشفات.
اكتشاف غرف الوضوء
لم تتوقف الاكتشافات عند هذا الحد، إذ كشف أنه خلال عمليات التنقيب في باطن الأرض بعمق 6 أمتار، اكتشفت 4 غرف متصلة مع بعضها بعضا أفقيا ومتعامدة مع بعضها في آن واحد، ومشيدة من الجص والحجارة، ومسقفة من خلال أسلوب العِقَادَة (أسلوب موصلي قديم في البناء).
وأن أبعاد هذه الغرف تقارب 3.5 أمتار مربع لكل منها وبارتفاع 3 أمتار، وتقع تحت سطح الأرض الحالية بنحو 6 أمتار وأسفل المصلى المكتشف، تحتوي على أحواض مياه مشيدة بمادة الحلان ومطلية بمادة القار (الإسفلت) لحفظ مياه الوضوء، فضلا عن اكتشاف مسارات لتصريف هذه المياه ونقلها لأماكن أخرى.
أهمية المكتشفات
للمكتشفات الحديثة في الجامع النوري أهمية كبيرة، فهناك دلائل كثيرة على أن أرضية المصلى المكتشف تعود للعهد الذي بني فيه الجامع، فالأرضية المكتشفة تقع في المستوى ذاته لأرضية مدخل الجامع الأصلي الذي تم اكتشافه قبل 3 عقود من الآن في الجدار الشمالي للجامع.
كما أن أهمية المكتشفات تكمن، في أن غرف الوضوء الأربع تدل على عبقرية الهندسة الإسلامية، لا سيما وأنها تميل بشكل واضح تجاه نهر دجلة لأجل تصريف المياه المستخدمة في الوضوء.
واوضحت منظمة اليونسكو على الصفحة الرسمية للمنظمة على “فيسبوك” (Facebook) أكدت أن هذه الاكتشافات تحمل في طياتها رسالة أمل إلى الموصل والعراق والعالم، فهي تسلّط الضوء على التاريخ العريق لهذا البلد، وتشرِّع أبواب فرص جديدة للتعرّف على تاريخ العراق واكتشاف تراثه الغني.