أ.م.د. ژینۆعبدالله- جامعة السليمانية
لا أعرف ما سرّ هذه الجاذبية التي يمتلكها الشتاء، لكنه كان دائمًا الفصل الأقرب إلى روحي. أحب كل شيء فيه، البرد القارس، زخات المطر التي تطرق النوافذ، الرياح التي تعصف بقوة، والثلوج التي تكسو الأرض برداء أبيض ناصع. كل شيء فيه يشدّني إليه، وكأنني أنتمي إليه أكثر من أي فصل آخر. رغم كل هذا، يرنُّ في ذهني دائمًا ما جاء في رواية “الحرب والسلام” لتولستوي: “الشتاء قاسٍ على الفقراء، لكنه يجعل الأغنياء أكثر دفئًا في قصورهم” ربما يحمل هذا الفصل بعض القسوة لمن لا يجدون الدفء، لكنه بالنسبة لي كان دائمًا موسم الولادة، ولادة الأفكار، والكتابات، والاكتشافات الأدبية العظيمة. ولعل ارتباطي بتولستوي لا يقتصر على هذا الاقتباس، فقد كانت روايته “الحرب والسلام” إحدى المحطات الكبرى في رحلتي القرائية، والتي قرأتها في فصل الشتاء، فزادني ذلك تعلقًا بهذا الفصل المفضل لديّ.
مطر الشتاء
في الشتاء، يزداد شغفي بالقراءة، وكأن صفحات الكتب تتفتح في البرد كما تتفتح الأزهار في الربيع. كل مشروع قرائي مهم بدأته كان في هذا الفصل، مهما بلغ عدد الصفحات، كنت أغوص فيها بنهم. أفلامي المفضلة أيضًا وجدت طريقها إليّ في الليالي الطويلة، والمقالات التي كتبتها في شتاءات متتالية لا تزال محفورة في ذاكرتي. حتى في أيام دراستي الجامعية، كانت أقوى درجاتي وأفضل لحظاتي الفكرية تولد في الشتاء.
مكتبة الجامعة المركزية
أتذكر جيدًا ذلك اليوم، عندما دخلت لأول مرة مكتبة الجامعة المركزية. كنت طالبًا في السنة الأولى، وكانت الكتب قليلة بسبب الحصار الاقتصادي، لكنني وجدت نفسي أمام عنوان جذبني بقوة “كيف تكسب الأصدقاء” لديل كارنيجي. كان عنوانًا ساحرًا، وكأنه يفتح لي بابًا إلى عالم لم أكن أعرفه. أخذت الكتاب وعدت به إلى المنزل، حيث لم تكن هناك كهرباء، ولا وسائل ترفيه سوى القراءة على ضوء الفانوس. أمضيت الليل كله غارقًا في صفحاته، حتى سمعت أذان الفجر يصدح في الخارج. لم يكن الكتاب مجرد كلمات مطبوعة، بل كان تجربة غيرت نظرتي للعلاقات البشرية والتواصل. ربما لو قرأته اليوم، لوجدت فيه بعض الإشكالات الفكرية، لكنه في ذلك الوقت كان بوابتي إلى عالم جديد، وأثرى لغتي العربية في زمن لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي قد غزت حياتنا.
ذكريات شتوية
اليوم، وبينما كنت أرتب مكتبتي، وقعت عيناي على ذلك الكتاب ذاته، فتدفقت إلى ذهني كل الذكريات. تذكرت شتاء الجامعة، والمطر الذي كان يرافق خطواتي بين القاعات، وتلك الليالي الطويلة التي قضيتها غارقًا بين السطور. رغم صعوبة الحياة حينها، كانت الكتب ورفاقها تمنحني القدرة على التواصل مع العالم، على فهمه بشكل أعمق، وعلى مواجهة الواقع بشيء من الحكمة المكتسبة.
ما بين الواقع والتكنولوجيا
القراءة في ذلك الزمن كانت ملاذنا، كانت دفئنا الحقيقي. أما اليوم، فقد أفسدت وسائل التواصل الاجتماعي ذلك التوق الجميل للمعرفة، وجعلت الشباب أسرى للشاشات، يفتقدون متعة الإمساك بكتاب، والتوحد مع كلماته.
رحلة إلى الداخل
الشتاء، رغم قسوته، هو الفصل الذي يولد الدفء الحقيقي في أرواحنا. ربما لهذا نحبه، لأنه يمنحنا لحظات من التأمل العميق، ولأنه يذكرنا بأننا قادرون على صنع دفئنا الخاص، بالكلمات، بالكتب، وبالذكريات التي تبقى معنا رغم مرور السنوات. وكما قال محمود درويش: “كنتُ أُحبُّ الشتاء، وأَمشي إلى موعدي فرحاًمرحاً في الفضاء المُبلِّل بالماء.”
*عنوان المقال مقتبس من شعر محمود درويش.