د. أمير حسين
كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، ردت على سؤال صحفي ، عندما سُئلت ، عما إذا كانت الولايات المتحدة والرئيس ترامب ، يوافقان على إعادة تمثال الحرية إلى فرنسا ، فقالت: لا بالتأكيد ، أقولها بكل وضوح : هذا السياسي منخفض المستوى (في إشارة إلى السياسي الفرنسيي ، دون ذكرها بالاسم ). يجب على الفرنسيين أن يتذكروا دائمًا، ويمتنوا لبلدنا، كان عليهم التحدث بالألمانية الآن، لو لم تكن أمريكا موجودة. المقصود هناً تحرير فرنسا ، في الحرب العالمية الثانية، من خلال مشاركة القوات الأمريكية مع الحلفاء .
هذا الأسلوب الأمريكي الجديد، في الحوار والتفاوض مع الحلفاء الاستراتيجيين التاريخيين في أوروبا، حتى تلك المناوشات التي جرت مع زيلينسكي، في البيت الأبيض ، أعتقد أنها ليست مجرد صدفة أو خروجًا عن النص، مثلما قالها ماكرون . حتى تصريحات المتحدثة، يبدو أن الجميع لديهم مواقف مخططة مسبقًا ومنهجية وموجهة، ولكن تلك اللغة التي تحدث بها المسؤول الأمريكي بعيدة عن التقاليد الدبلوماسية المعتادة ، في العلاقات بين الدول، وخالية من أي بروتوكول دبلوماسي. من هنا تبرز إشارة واحدة يمكن استخلاصها: العالم أمام استراتيجية انفصال أمريكيا من أوروبا . يبدو أن ترامب خطط مسبقا لهذا منذ البداية. لأنه على مدى اكثر من القرن ، تعاون الأوروبيون والأمريكيون كقطب واحد، وكقوة سياسية واقتصادية واجتماعية مشتركة، وأنتجوا معًا ثقافة مشتركة قوية، في جميع الجوانب، سيطرت على العالم حوالي قرن، خاصة في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي المشترك.
بعد عودته إلى البيت الأبيض، لم يتردد ترامب في الإعلان عن هدفه، باستعادة المكانة اللائقة (أمريكا أولاً). منذ خطاب تنصيبه، يأكد باستمرار على بدء عصر ذهبي جديد لأمريكا، أو كما يقول: سوف أعيد مجد لأمريكا، ولكن السؤال الجوهري هو: في ظل الاستراتيجية الانفصالية، مع الحلفاء الاستراتيجيين في أوروبا، بينما الخصوم، أو بالأحرى المنافسون التقليديون والجدد، ما زالوا أقوياء في الساحة ومتربصين . هل هذا خيار صحيح لأمريكا في هذا الوقت؟ هل هذه الاستراتيجية الجديدة مرت عبر مطبخ (الدولة العميقة ؟) بالنظر إلى أن أمريكا دولة مؤسساتية، بالتأكيد مثل هذا المواقف، قد لا يكون مجرد اجتهاد أو رغبة فردية لحزب أو مؤسسة معينة، وفقًا لمصالح خاصة.
الأمريكيون، وخاصة على لسان بعض السياسيين الجدد، (يشتبه في وجود موافقة ترامب المبطنة) في كل مناسبة يطلقون بالونات اختبار، لا يريدون بعد الآن أن تكون أمريكا ضحية لاستغلال الأوروبيين (اقتصاديًا وعسكريًا)، لا سيما بعد اندلاع الحرب المستمرة منذ حوالي ثلاث سنوات، بين روسيا وأوكرانيا. هذا الوضع يشكل عبئا ثقيلا ،على الميزانية والاقتصاد ودافعي الضرائب الأمريكية والأوروبية ، ومواجهة أزمة اقتصادية خانقة في المستقبل، احتمال مفتوح. في حين أننا نعلم أن نسبة ديون أمريكا تقترب من 32 تريليون دولار، والاتحاد الأوروبي يقترب من 15 تريليون دولار. ومعدل التضخم في كليهما يقترب من حوالي %4 الى %5.
على الرغم من أن مواقف أمريكا الحالية ، جعلت العلاقات الداخلية للدول الأوروبية أكثر دفئا، والخوف من التوسع، وتهديدات بوتين، نتيجة حرب أوكرانيا، أجبرت الأوروبيين على المزيد من الانسجام والديناميكية ، يحاولون جاهدين جمع وتخصيص، ما يقارب من تريليون دولار، بهدف إعادة الهيكلة والاستثمار في صناعة البنية التحتية والتكنولوجيا العسكرية، وفقًا للتلميحات الأولية. الآن الأوروبيون وجدوا أنفسهم فجأة، مضطرين لتحمل مسؤولية أمن القارة لأول مرةً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشكيل التحالف العسكري (الناتو) في 1949، في مجال الأمن، اعتمدوا بشكل أكبر، لأكثرمن نصف القرن ،على القوات الأمريكية داخل الناتو، لكن الآن يبدو أن ترامب والأمريكيين، لم يعودوا بعد مستعدين، لتحمل هذه المسؤولية الثقيلة.
مواقف ترامب تجاه حرب أوكرانيا، ليست فقط إشارات لسياسة استراتيجية جديدة تجاه روسيا (الخصم التقليدي)، ولكنها إشارة قوية لاستراتيجية جديدة تجاه أوروبا (الحليف التقليدي)أيضا. إذا تم اعتبار هذا بداية لنهاية التحالف الاستراتيجي بين أمريكا وأوروبا، من ناحية أخرى، فهو بداية لنهاية المقاطعة ،لعلاقات بين روسيا وأمريكا. لذلك، قد يشهد العالم عصرًا جديدًا في العلاقات الجيوسياسية الدولية، تصبح ملامحها في المستقبل أكثر وضوحًا.
في المكالمة الهاتفية التي استمرت أكثر من ساعتين، بين ترامب وبوتين (هذه هي المرة الثانية التي يتواصلان فيها بشكل علني ومباشر، بعد عودته إلى البيت الأبيض)، وبالرغم من الوعود العديدة ، بقدرته على إنهاء الحرب في غضون 24 ساعة، ولكن اليوم وبعد مرور أكثر من شهرين من عودته ، بالإضافة إلى التفاهم المشترك حول السلام، ووقف الهجمات على البنية التحتية للطاقة في كلا الطرفين لمدة (30) يومًا، تبادل بعض الأسرى، وضع بوتين شرطًا صعبًا، إن لم يكن مستحيلاً، أمام ترامب لإنهاء الحرب، وهو وقف جميع أنواع المساعدات العسكرية، وعملية التسلح، وحتى المساعدات الاستخباراتية الأمريكية والأوروبية، لأوكرانيا، بالتأكيد، هذا الطلب من بوتين، يعتبر رفعًا كبيرًا لسقف المطالب، لأن موافقة الأوروبيين على هذا الطلب صعبة جدًا، بل مستحيلة في هذا الوقت، الأوروبيون يعتبرون أوكرانيا حجر الزاوية لأمن قارتهم، حتى (ستارمر، ماكرون) يقولون صراحتاً ، إنهم مستعدون لنشر قوات فرنسية وبريطانية على الأراضي الأوكرانية، بينما الروس يرفضون هذا الأمر بشدة.
في النهاية، الحرب والسلام في أوكرانيا، والسياسات الاستراتيجية المتغيرة للعالم، والعلاقات الجيوسياسية الجديدة، ترسم خريطة الطريق، للعالم في الأفق بأقطاب متعددة ، بشكل أكثر واقعية من أي وقت مضى، من هنا يمكن تأكيد مقولة اللورد بالمرستون (في السياسة لا يوجد أصدقاء أو أعداء دائمون، بل مصالح دائمة) مرة أخرى.