أ.م.د. ژینۆعبدالله- جامعة السليمانية
لا شيء يوازي متعة القراءة خلال العطل، إذ أجد فيها فسحة تأمل وسط الالتزامات العائلية. هذه المرة، وقعت عيناي علي طبعة جديدة لكتاب قرأته خلال مرحلة البكالوريوس، وهو أحد أكثر الكتب جدلًا في الفكر السياسي المعاصر: “الأمير” لنيكولو مكيافيلي( 1469-1527).
لطالما أثار هذا الكتاب اهتمامي، لكن ارتباطي به تعمق أكثر عندما أتيحت لي فرصة المشاركة في دورة صحفية بإيطاليا عام 2012، بتنظيم من وزارة الخارجية الإيطالية بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية. كنت محظوظًا بترشيحي من قِبل الإعلامي المخضرم والوزير السابق فرياد راوندوزي.
خلال تلك الرحلة، زرت فلورنسا، وكنت حريصًا علي زيارة بيت ومكتبة مكيافيلي، ذلك الرجل الذي لقّبه خصومه بـ”أستاذ الشر”، وصاحب أحد أشهر الكتب الجدلية في الفكر السياسي.
كلما قرأت “الأمير”، ازداد يقيني بأن نصائح مكيافيلي لا تزال تجد صدي في عالمنا اليوم. فكم من قادة الدول وصانعي القرار يستلهمون من هذا “الثعلب الماكر”، الذي لم يكن مجرد مؤرخ أو كاتب، بل كان قائدًا عسكريًا ودبلوماسيًا مخضرمًا. وضع قواعده السياسية بعد تجربة غنية، وكان هدفه الأساسي استعادة نفوذه السياسي، لكن القدر لم يسعفه، ولم يُطبع كتابه إلا بعد وفاته.
“يمكن القول إن البشر ليسوا متساوين في النزاهة، فهم غالبًا ما يميلون إلي الخداع والطمع، ويتجنبون المخاطر بحثًا عن المكاسب.” بهذه العبارات الصادمة يبدأ مكيافيلي نظريته، وهي كلمات تستدعي إلي الذهن ممارسات كثير من الساسة اليوم. فالكتاب يرسّخ قناعة مفادها أن السياسي لا يمكنه الجمع بين المبادئ والمصالح، بل عليه أن يختار أحدهما، وهو اختيار يبدو أن العديد من الدول الأوروبية تخلت عنه، بينما لا يزال مترسخًا في مجتمعاتنا.
وسط التحولات السياسية المتسارعة، تبرز أفكار مكيافيلي وكأنها لم تفقد بريقها، فهو يري أن السياسي الصالح لا يمكن أن يكون رجل دين صالحًا، لأن السلطة تفرض علي صاحبها اتخاذ قرارات لا تتماشي دائمًا مع القيم الدينية والاجتماعية. ومن أشهر مقولاته: “الغاية تبرر الوسيلة”، و”علي الأمير أن يكون ثعلبًا ليدرك الفخاخ، وأسدًا ليرهب الذئاب”، إذ يري أن الحاكم يجب أن يكون ذكيًا كالثعلب لكشف المؤامرات، وقويًا كالأسد لفرض سلطته.
ورغم مرور القرون، لا يزال “الأمير” حاضرًا، ليس فقط في صفحات التاريخ، بل في سياسات اليوم. هذا الكتاب الذي أجاز البابا نشره في البداية، عاد ليأمر بحرقه لاحقًا، وكأنه بذلك اعترف ضمنيًا بخطورته.