كانت الجمعة رمادية، لا بسبب الغيم، بل بسبب تلك العاصفة الترابية التي لفّت المدينة بلون الغبار. لم نخرج كعادتنا، وكانت العائلة مجتمعة في البيت. أما أنا، فوجدتني ألوذ بمكاني المفضل: مكتبتي. هناك، حيث تسكن الكتب كأنها أرواح تنتظر من يوقظها، وقعت يدي على رواية “البيضاء” ليوسف إدريس. لا أدري ما الذي دفعني إليها.
يوسف إدريس (1927 – 1991)، ليس مجرد روائي، بل صوت جيلٍ كامل. رائد القصة القصيرة، عاش بين البسطاء، وكتب بلغتهم، بلهجتهم، وبأحلامهم المكسورة. مزج في أسلوبه بين نبض العامية ووقار الفصحي، وخلق من هذا المزيج مدرسة كاملة أعجبت بها طه حسين (1889–1973)، فتبنّاها وأثني عليها.
لكن رواية البيضاء مختلفة، فيها شيء من المرارة، من خيبة الأمل، من التحوّل الحاد، الرواية تمضي على خطين متوازيين: أحدهما سياسي، والآخر عاطفي.
البطل: الدكتور يحيي.
المكان: جريدة يسارية.
المواجهة: بين الإيمان بالفكرة، وصدمة الواقع.
يحيي صحفي شاب، يساريّ، يكتب كما لو كان يُغيّر العالم بجريدة. لكنه يصطدم بشخصية البارودي، رئيس التحرير، رجل بدأ بصيرًا، نافذ الرؤية، ثم اعتُقل وعُذّب، فأُصيب بالعمي. لكن فقدانه للبصر لم يمنعه من التسلط، بل زاده إصرارًا. يواصل إصدار الأوامر، كأن عماه الجسدي عزّز سلطته الفكرية. وهنا تبلغ الرمزية ذروتها: حتي الأعمى في هذا النظام يرى أكثر من المبصرين.
أما الخط العاطفي، فهو أكثر ألمًا. يحيى يقع في حب فتاة يونانية تُدعي ساندي. حب أحادي الجانب، يشبه تمامًا علاقة الشرق بالغرب. هو مأخوذ بكل ما فيها: طريقتها، حديثها، لامبالاتها. وهي لا تبادله سوى نظرات متعالية، باردة. وكأن إدريس يريد أن يقول: الشرق، هذا العاشق الأبدي للغرب، يلهث وراء من لا يعترف به.
في هذا السياق، انهالت الاتهامات. قيل إن إدريس خان يساريته. قيل إنه يكتب بلسان الدولة. قيل إن روايته هذه موجهة. لكن، هل يجوز أن نحاسب أديبًا لأنه غيّر موقفه؟ هل يصبح الفن خيانة حين يتقاطع مع لحظة مراجعة ذاتية؟
البيضاء ليست مجرد رواية عن السياسة أو الحب، بل وثيقة أدبية في زمن مضطرب. لغتها البسيطة تخفي تحتها طبقات من الأسي والرمز، ومن التأمل الصعب في واقع لم يعد يحتمل الشعارات. قد نختلف مع يوسف إدريس، لكن لا يمكننا أن نتجاهل شجاعته. لقد كتب في وقت كان فيه الصمت أضمن، والحياد أسلم.