گەلاوێژ
حين سُئلتُ عن حكايتي مع الكتابة، وجدتُ نفسي أعود بذاكرتي إلى البدايات، إلى سنوات الطفولة الأولى، حيث تشكّلت البذور الأولى لحبّي للكلمة.
أتذكّر جيدًا يوم خطوتُ أولى خطواتي نحو مقاعد الدراسة. كنتُ طفلًا مولعًا بالأقلام والدفاتر، أعكف على ترتيبها، وأتحاور مع نفسي كثيرًا، أخوض معها جدالات، وأعقد معها مصالحات. بدا واضحًا منذ ذلك الحين أنني مختلفة عن أقراني؛ فبينما كانوا يتبادلون الأحاديث واللعب، كنتُ أنا أخوض حواراتي الخاصة مع ذاتي، وفي داخلي كان ينمو إحساسٌ مبكّرٌ بالرواية والحكاية.
كبرتُ قليلًا، ومع أولى نبضات المراهقة، كتبتُ رسالتي الأولى. كانت رسالة إعجاب إلى الفنانة صباح، المطربة الشهيرة التي استهوتني أغانيها وأسرني حضورها، خاصة بعد فيلمها القلب له واحد. كنتُ أحفظ أغنياتها وأُردّدها بصوتي الصغير. وكم كانت سعادتي غامرة حين علمتُ أن رسالتي نُشرت في مجلة الكوكب السينمائية المصرية. كان ذلك الحدث بمثابة إشراقة فرح لا تُنسى.
في سنواتٍ مبكرة، قرأتُ أول رواية في حياتي، يوميات نائب في الأرياف للأديب المصري الكبير توفيق الحكيم. استهوتني لغته البسيطة وأسلوبه السلس، الذي كان ينفذ دون تعقيد إلى عقل القارئ ووجدانه. كان أسلوبًا يخاطب الإنسان بلا تكلف، فاسترحتُ له كثيرًا، وتعلّمتُ منه الكثير عن الكتابة.
كذلك وجدتني مأخوذةً بأدب مكسيم غوركي. لطالما نَفَرتُ من النصوص المعقّدة، التي تفرض على القارئ أن يستعين بمنجّمٍ يفسّر طلاسمها. أحببتُ الأدب الذي يصل إلى القلب مباشرة، ويمرّ عبر سطور شفّافة لا تخشى الوضوح.
ثم حلّت نكسة الثورة الكردية عام 1975، وتبعها المنفى والشتات. لجأنا مرتين إلى إيران، وهناك تعلّمتُ اللغة الفارسية، وما زلتُ فخورةً بذلك؛ إذ لطالما أحببتُ إيران وأدبها. وبعد أن بدأتُ بكتابة الرواية والترجمة، قمتُ بترجمة كتاب ملف إداري لعزيز نيسين من الفارسية إلى الكردية.
في لندن، حين استقرّت بنا الأمور قليلًا، أرسلتُ أولادي إلى المدرسة بلا خوف. وبعد فترة قصيرة، حين ضاقت الأحوال ووجدنا صعوبة في إيصالهم إلى مدارسهم، ولم يكن بمقدورنا دفع أجرة سيارة أجرة، قررتُ أن أتعلم قيادة السيارة.
رغم أن الجميع قال إن الأمر صعب، لم أُعر لذلك اهتمامًا، ولم أسمح للخوف أن يتسلّل إلى قلبي. آنذاك، لم أكن أُجيد الإنجليزية سوى بعض الكلمات التي تعلّمتها لاحقًا في المدرسة. لكن والد هێرۆ، رحمه الله، كان دائم التشجيع، يقول لي: “ستتعلّمين، لا تخافي”. بفضله ودعمه، صرتُ أقود السيارة في شوارع لندن منذ أكثر من خمسةٍ وثلاثين عامًا.
ورغم أن حياتنا هناك صارت أكثر هدوءًا، بقيت نار الغربة متّقدةً في داخلي. كان قلبي مع الپێشمەرگە في الجبال، ومع الأبطال تحت قصف طائرات صدام. كنتُ قلقةً عليهم دائمًا، وعلى الأحبّة، خاصة الرئيس مام جلال وهێرۆ، التي كانت پێشمەرگە أيضًا آنذاك.
ذلك القلق لم يُفارِقني، والغربة أرهقتني، حتى أدركتُ أن لا شيء في الدنيا أقسى من مرارة الاغتراب. كنّا ننتظر أخبار الوطن عبر الفاكس والمكالمات، وكل نبأ كان يحمل معه خوفًا جديدًا.
وفي إحدى اللحظات القاسية، شعرتُ بصوت ينبض في داخلي. أمسكتُ الورقة والقلم، وكتبتُ أول إحساس خطفني، وقلت:
“كردستان، يا حبيبتي… بعد الله، لا أحد أعشق سواك. قلبي عليكِ لا يهدأ، وحواسي كلها عندكِ. لا مدينة ولا وطن، ولا فرح ولا أمنية، يمكنها أن تسرقكِ من روحي، أو تمحوكِ من ذاكرة أجدادي.”
هكذا وُلدت كلماتي الأولى، من رحم الغربة والحنين.