لا شك أن حياة الروائية گەلاوێژخان كانت حافلة بالمعاناة والمرارة، انعكست تفاصيلها بوضوح في رواياتها. لم تكن كاتبة من خارج الحدث، بل عاشت قلب الواقع، في تفاصيل الثورة والجبال والوديان، برفقة زوجها الأستاذ إبراهيم، وبين پێشمەرگە والانتصارات والمآسي. لذا، تجلت هذه الوقائع بصدق في أعمالها الأدبية.
وتعاقبت بعدها رحلة المدن والتشريد، ثم الهجرة خارج كردستان لاجئةً مشردة، ليزداد غربتها وجعًا وهمًّا. گەلاوێژخان، بطبيعتها، ظلت حاملةً لهَمّ أمتها، لا تعرف الفرح إلا وسط الأحزان. فمن يقرأ مذكراتها يدرك أنها منذ الطفولة نشأت بين الأزمات والآلام، متنقلة من مدينة إلي أخرى، عاشت غريبة بين غرباء لا يشبهون الأطفال الآخرين. لم تعرف الراحة والطمأنينة، بل مشت مع الحياة بما فيها من تقلبات. تلك الحياة القاسية التي طالما ابتُليت بها العائلات الكردية، ولا تزال تعيشها حتي اليوم. لهذا، انعكست هذه الوقائع في كتاباتها، وطرحت مواضيعها بواقعية صادقة وشفافة.
وبما تمتلكه من طاقة وإبداع، وبصفتها أديبةً وروائيةً وقاصةً مجرّبة، استطاعت من خلال نحو 28 عملًا أدبيًا أن تصنع لنفسها اسمًا بارزًا وقلمًا لامعًا. ونجحت، خاصةً كامرأة وشخصية اجتماعية مؤثرة، أن تقدّم عبر رواياتها صورة ناطقة للأدب الكردي، وبلغ صداها الأدب العربي أيضًا، حيث تُرجمت بعض أعمالها للعربية.
والحق أن الرواية النسوية في تجربتنا الأدبية نادرة، ويجدر القول إن گەلاوێژخان كانت استثناءً شجاعًا في هذا الميدان. نعم، لدينا شاعرات وكاتبات وقاصات متميزات، لكن الرواية — كما هو معلوم — حياة متسعة، تضم كل الأجناس الأدبية والشخصيات. ولو أردنا تصنيف روايات گەلاوێژخان، لأمكن توزيعها في ثلاثة أو أربعة محاور.
فإن نظرنا إليها كروايات تاريخية، نجدها تسرد تاريخًا وجغرافيا محددة: كردستان، عبر خمسين عامًا تمتد من العهد الملكي حتي أواخر السبعينيات والثمانينيات، بكل تفاصيلها الثورية التي لم نكن نعرفها، وهي تسردها لنا. أما شخصياتها، سواء في الثورة أو في الروايات، فبسطاء صابرون بأسماء كردية عذبة.
حتي في روايتها “نحو كهف الشجعان”، تهدي العمل إلي أمهات پێشمەرگە، لأنها — كما تقول — تري فيهن دائمًا قلوبًا مفعمة بالأمل، معلقةً على رجاء عودة أبنائهن سالمين، وتحقيق رسالتهم. ومن جانب آخر، تعكس هذه الأمهات حبًّا غريزيًا وسعيًا دائمًا ليكون أبناؤهن في طليعة الكفاح.
لهذا، نجد في رواياتها بعدًا اجتماعيًا ونفسيًا متجذرًا، يرسم ملامح تلك المرحلة في مدن كردستان. كيف كانت العلاقات الأسرية؟ كيف كانت الشخصيات؟ كيف ضحي الناس في سبيل أقاربهم؟ وكيف، من أجل قضية وطنية كبرى، تحملوا كل الأهوال؟ كلها قضايا واضحة المعالم يمكن مناقشتها طويلًا.
الرواية، أو هذا النوع من القصص، جنس أدبي شديد التعقيد، يتطلّب طاقة شخصية وفكرًا ناضجًا وصدقًا عميقًا وحسًّا مرهفًا. وكل هذه المقومات كانت واضحة في تجربة گەلاوێژخان الأدبية. لأنها وُلدت في بيئة وأسرة ناضلت منذ الطفولة، وانفتح وعيها على حب الوطن، والنزاع مع الأنظمة الفاشية في عهد الملكية. نشأت ضمن عائلة عُرفت بأفرادها المناضلين الذين لم تغب عنهم أعين رقابة السلطات. ولو تتبعنا تاريخ هذه الأسرة الوطنية، لوجدنا أسماءً وشخصيات نذرت أكثر من نصف قرن من عمرها لقضية الشعب الكردي، وكانت في مقدمة قوافل الكفاح والنضال.
ولعلّ من أبرز هذه الشخصيات أستاذ الأجيال، المفكر والمثقف والمناضل الصلب، الأستاذ همزة عبدالله، الذي ظل طوال حياته يرفض المناصب والرتب، ويواجه الأنظمة واحدًا بعد آخر. كان قنوعًا، عزيز النفس، لا ينحني لعاصفة، ويمثّل شخصية يحق للكرد أن يفتخروا بها.
ثم تزوجت گەلاوێژخان من الأستاذ، الشاعر، الأديب، الصحفي، السياسي، القاضي، والمحامي إبراهيم أحمد ذلك الذي كان في مقدمة مسيرة الصحافة والأدب الكردي على مدار ما يقرب من نصف قرن.
ثم جاء ارتباطها بالراحل الرئيس مام جلال الذي صار صهرًا للعائلة، وكان له هو الآخر أثر كبير في حياتها. ومع أن كثيرين يرون أن اقترابها من هذه الأسماء كان سببًا في تمهيد طريقها، إلا أن الحقيقة أن گەلاوێژخان، حتى دون هؤلاء، امتلكت قلمًا مميزًا، ودوّنت من قلب الحدث، وعاشت في قلب الثورة، ولم تكن يومًا من أولئك الذين ينقلون صورة بعيدة عن الواقع.
في ظل كل هذه التحديات، مضت گەلاوێژخان تبحث في تفاصيل الثورة عن أولئك المنسيين، عن پێشمەرگە المجهولين، عن الأسر التي ضحّت بلا ضجيج، عن شخصيات ظلت صامتة في زوايا النضال، وعن حكايات لم تروها السياسة. فتُعيد عبر رواياتها إحياءهم، وتُذكّرنا بهم. وهكذا تثبت لنا أن الرواية الحقيقية لا تكتفي باستعراض الأسماء اللامعة، بل تحفر في أعماق الواقع لتكشف عن تلك الأرواح التي حملت الثورة على أكتافها وسارت بها في صمت.
وما يميز گەلاوێژخان أيضًا هو عنايتها البالغة بشخصية المرأة في رواياتها. لطالما قدّمت المرأة الكردية كشخصية بطولية، قادرة على حمل السلاح، والذهاب إلى الجبال، والمشاركة في الثورة، كما في رواية “عابرة سبيل هائمة” التي تظهر فيها المرأة في قلب الانتفاضات، ولا تتردّد في تقديم حياتها قربانًا.
لم تكتفِ گەلاوێژخان بذلك، بل رسمت تفاصيل دقيقة لعوائل كردية كانت الأم فيها عماد البيت والثورة معًا؛ أمهات كنّ يحملن أسرار النضال، ويحمين تنظيماته، ويكابدن التهجير والانتقال من مدينة إلى أخرى من أجل استمرار رسالة الكرد وكفاحهم.
إن هذه القدرة وهذا الوعي لم يقتصر على رسم حدث تاريخي بطريقة أدبية فحسب، بل نستشعر في أسلوب كتابتها سلاسة ووضوحًا، ولغتها بعيدة عن التعقيد والمبالغة، تحمل رسالة واضحة، مباشرة وهادفة. إلى جانب ذلك، يتجلّى في كتاباتها اهتمام بالغ بالحكمة والأمثال الكردية، فتوظفها بذكاء، سواء في حوارات الرجال أو النساء، مما يمنح نصوصها طابعًا فلكلوريًا أصيلًا، ويضيف بُعدًا اجتماعيًا وثقافيًا غنيًا.
ويبدو لي من خلال قراءة مجمل أعمالها أن گەلاوێژخان لم تكن مجرد كاتبة تسجّل وقائع الثورة، بل كانت ابنة الشعب، تسمع للناس، وتحمل همومهم، وتتأمل صورهم، وتحوّلها إلى نصوص تحفظ للأجيال القادمة تفاصيل تلك الأيام العصيبة، كي لا يطويها النسيان، وكي تبقى حاضرة في وجدان الأمة.