الكاتب د . صادق كاظم
زرت الموصل قبل عدة أيام في مهمة عمل رسمية، وهذه أول مرة أزور هذه المدينة الشماء بتاريخها بعد تحريرها من سيطرة عصابات داعش الإجرامية. تجولت في ارجاء المدينة ليلا ونهارا، فوجدت الأمن والاطمئنان وفرحة سكانها العارمة والكبيرة بزوال كابوس داعش.
وجدت في الموصل اليوم إعمارا حقيقيا ومتواصلا وورش عمل تطوي النهار مع الليل، لإعادة المدينة إلى سابق عهدها، ورغم قلة التخصيصات المالية والاجراءات الروتينية الصعبة والمعقدة، الا أن عزائم أهل المدينة متواصلة في البناء والإعمار. استمعت من الأهالي الطيبين الكرام، الذين غمرونا بكرمهم الحاتمي إلى قصص إجرامية ومروعة قام بها افراد عصابات داعش المنحطون وسلوكياتهم الاخلاقية، التي يندى لها الجبين وكيف حولوا المدينة إلى سجن كبير، أصبح فيه أهلها رهائن بيد تلك العصابات . بعض هذه القصص مؤلم ومحزن كقصة الفتاة الموصلية الشجاعة، التي تحدت إرهاب عصابات داعش الاجرامية وفضحتهم امام الملأ، فما كان منهم إلى أن قاموا باعتقالها وتعذيبها، ومن ثم قتلها بوحشية أمام أطفالها الأبرياء الصغار، او تلك القصص عن قيامهم بوضع أسلحتهم داخل الأحياء والدور السكنية، من اجل تعريضها للقصف الجوي من قبل التحالف الدولي وقتل سكانها الأبرياء. فضلا عن قيامهم بالمتاجرة بالسجائر والكحول من خلال سوق سوداء يديرونها ويشرفون عليها، رغم الفتاوى التحريمية المزيفة، التي تهدد بالعقاب الشديد مدخني السجائر, اضافة إلى عمليات السرقة المنظمة للآثار والمعادن والنفط من أرض الموصل، ونقلها إلى تركيا بالتعاون مع المافيات العالمية. كذلك تحدث أهالي الموصل عن جرائم الإعدامات والقتل والتصفيات الجسدية، لكل موظف عمل مع الحكومة في هذه المدينة وكيف تم إعدام أكثر من 10 آلاف مدني وعسكري وبدم بارد من قبل تلك العصابات, اضافة إلى قيامهم بغسل أدمغة التلاميذ من طلبة المدارس ومحاولة نقل الفكر الإجرامي الظلامي إلى عقولهم عبر تدخلهم في المناهج الدراسية وتحويلها إلى دروس عن الأحزمة الناسفة والموت انتحارا، وقتل الآخرين وقطع الرؤوس وغيرها، ما أجبر الأهالي على عدم إرسال أولادهم إلى المدارس، من أجل حماية أطفالهم من تلك الدروس المرعبة. عملية سقوط الموصل في شهر حزيران من العام 2014 كانت نتيجة أخطاء وتماهل القيادات الأمنية، التي قصرت في واجبها، ولم تكن جادة في معالجة الموقف ووضع خطط هجمية سريعة لاسترداد زمام المبادرة, لإضافة إلى فسادها ولا مبالاتها, اذ بقيت المدينة مخترقة وعرضة للهجمات, إضافة إلى وجود خلايا ارهابية نائمة داخل المدينة.
كانت تقوم بأعمال الابتزاز وجني الاموال والتي كانت تصل إلى حوالي 5 ملايين دولار شهريا من متعهدي نقل المشتقات النفطية والسمنت والصاغة والمقاولين والاطباء، وصولاً إلى باعة الخضراوات. كما ان مئات من الموظفين الوهميين كانت رواتبهم تذهب إلى داعش، إضافة إلى تخصيصات تنمية الاقاليم (ميزانية تمويل محافظة نينوى) كان يذهب 40 في بالمئة منها إلى داعش . تقرير لجنة سقوط الموصل البرلمانية طرح بدوره جملةً من الأسباب الأخرى، والتي من بينها ظاهرة الجنود الذين يدفعون نصف رواتبهم للقيادات الأمنية، من اجل التغيّب، والتي كانت سببا مهما في انهيار الوضع الامني، بل أن أحد الألوية التي كانت تدافع عن المدينة، لم تكن تضم سوى 76 جنديا قبل شهر من سقوط المدينة! . كل ذلك وغيره قاد في النهاية إلى كارثة السقوط، التي استمرت لأربع سنوات قبل أن تتمكن القوات المسلحة والحشد الشعبي الباسل من دحر تلك العصابات وطردها وتحرير المدينة وسواها من المدن العراقية المحتلة، واعادتها إلى السيادة العراقية الوطنية في ملاحم خالدة تستحق أن تذكر وتدرس. في يومي الأخير في المدينة قمت بجولة في شوارع المدينة، التي كانت تضمد جراح الاحتلال الداعشي، فوجدت أجهزة أمنية تسهر على حماية المواطنين تتواجد في الشوارع والأزقة تقوم بواجبها بكل احترام للمواطنين، ومن دون إزعاج أو مضايقة أو تذمر من المواطنين, إضافة إلى الأفراح والأعراس، التي يقيمها الاهالي في نهاية الاسبوع, وكذلك المطاعم الجميلة المطلة على ضفاف دجلة، التي كانت تزدحم بالأسر, حيث تتلألأ بالأنوار والسرور، الذي يعم وجوه الأسر الموصلية، وحيث الأغاني الموصلية الجميلة المعبرة عن الفرح والامل والتفاؤل، وهي تنبعث من الزوارق السياحية، التي تقل الأسر في جولات حول المدينة وعلى طول نهر دجلة الخالد. اليوم المدينة يعمها الامان بحماية اهلها الأبطال ورجال جهاز مكافحة الإرهاب الأشاوس وقوات الحشد الشعبي البسلاء، والذين يشكلون الدرع الأمين والمنيع بوجه الشر والإرهاب.