حيدر خليل سوره ميري
ليس ثمّة بلد في هذا الكون مشغول بتاريخه مثلما هو العراق. هذا البلد، الذي امتلك واحدة من أقدم الحضارات البشرية، بات اليوم أسيرًا لوقائع تاريخية حديثة؛ لا يحياها كدروس أو عبر، بل كأزمات متكررة، يعيد إنتاجها، ويصبّها صبًّا على واقعه السياسي والاجتماعي، فيقعده ذلك عن الفعل، ويعطّله عن البناء، ويحرمه من الحاضر والمستقبل معًا.
في العراق، لا يُحتفل بالمناسبات الدينية أو الوطنية بوصفها محطات تأمل أو استذكار، بل تتحول إلى مواسم للنقاش الحاد والانقسام الداخلي. فمع حلول عيد الغدير، يبدأ الجدل السنّي–الشيعي، والشيعي–الشيعي، ويستمر بلا هوادة حتى مطلع شهر محرّم، لتدخل البلاد بعدها في موسم عاشوراء، حيث تستعر النقاشات مجددًا، بين رؤى متباينة للتاريخ والدين والهوية، يُستنزَف فيها العقل والروح، دون أن تقود إلى اتفاق أو تسامح.
وبالكاد تنقضي تلك الأسابيع حتى تبرز ذكرى ثورة العشرين، التي لم تُحسم قراءتها بعد مئة عام، فثمّة من يراها ثورة شعبية وطنية ضد الاحتلال البريطاني، وآخرون يعدّونها انتفاضة عشائرية ذات طابع محدود. وهكذا تبقى الذاكرة منقسمة، عاجزة عن تأسيس وعي جمعي موحد.
ثمّ تأتي ذكرى 14 تموز، لتُعيد إنتاج الانقسام ذاته: أهي ثورة مجيدة أسقطت الملكية وبشّرت بالجمهورية، أم انقلاب عسكري دموي قضى على الدولة وأدخل البلاد في دوامة الانقلابات والدماء؟
وبدلًا من أن يكون التاريخ مرآةً نراجع فيها أخطاءنا ونستلهم منها العبر، تحوّل إلى ساحة معركة يومية نُريق فيها طاقاتنا في الجدل، ونسفّيه على الواقع كأنّه قدر لا فكاك منه. وكأنّنا نعيش في التاريخ بأجسادنا وأرواحنا وعقولنا، لا في واقع يتطلب عملاً ومصالحة وتنمية.
إنّ الحاجة اليوم ليست إلى نسيان التاريخ، فهذا وهمٌ لا يدعو إليه عاقل، بل إلى تجاوزه. تجاوزه لا يعني إنكاره، بل وضعه في مكانه: خلفنا. فالأمم التي تقدّمت لم تُهمل تاريخها، لكنها لم تجعله مرجعيّتها الحصرية في كل خطوة تخطوها.
متى ما قررنا –كعراقيين– أن التاريخ ليس هو الذي يكتب حاضرنا، بل نحن من نكتبه، وأنّ صراعات الأمس لا تصلح لمعارك اليوم، وأنّ هوياتنا الدينية والعشائرية لا ينبغي أن تكون سيفًا مسلطًا على رقاب وحدتنا وتقدّمنا، عندها فقط نغادر التاريخ، وندخل في صناعة المستقبل.
فلا ينهض وطنٌ ينام على أوجاع الماضي، ولا تُبنى دولةٌ تقف كل يوم على أطلال الخلاف.