عباس عبدالرزاق
منذ انخراط الولايات المتحدة في الحرب على تنظيم داعش، ظهرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كحليف محوري ميداني. إلا أن تصريحًا حديثًا لتوم باراك، المبعوث الأميركي الخاص أو أحد ممثلي السياسة الخارجية في سوريا، قلب الطاولة على المفاهيم السابقة للتحالف. إذ قال صراحة:
( نحن لا ندين لقسد بشيء، ولم نكن حلفاءً إلا في الحرب على داعش، ولا نؤيد قيام حكومة مستقلة في سوريا ) هذا التصريح لا يمثل مجرد توصيفٍ دبلوماسيٍ للعلاقة، بل يحمل دلالات سياسية عميقة تعكس تحولات في الإستراتيجية الأميركية، وتضع مشروع الإدارة الذاتية وقسد أمام لحظة انعطاف خطيرة.
خلفية التحالف بين واشنطن وقسد – الضرورة العسكرية
ظهر التحالف الأميركي – الكردي كتحالف اضطراري في سياق انهيار الدولة السورية وتصاعد تهديد تنظيم داعش. فقد كانت قسد، المدعومة بشكل رئيسي من وحدات حماية الشعب الكردية، القوة الأكثر فاعلية وانضباطًا في الميدان. الولايات المتحدة قدمت الدعم العسكري واللوجستي، بينما قدمت قسد آلاف المقاتلين الذين ساهموا في تحرير الرقّة وكوباني وغيرها من المناطق.
لكن هذه العلاقة، ورغم كونها مصيرية على الأرض، لم تخرج من عباءة الضرورة العسكرية المؤقتة، وهو ما بدأت واشنطن تصرح به بوضوح بعد القضاء على “الخلافة المكانية” لداعش في 2019.
خطاب توم باراك – نفي التحالف السياسي
العبارة ( نحن لا ندين لقسد بشيء ) هي إعلان سياسي أكثر من كونه توصيفًا. إنها تعني:
رفض أي التزام طويل الأمد تجاه القوى الكردية في سوريا. نفي الشراكة السياسية والدبلوماسية، رغم عمق الشراكة العسكرية التنصل من دعم مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، الذي تطوّر خلال الحرب.
بهذا المعنى، يصبح تصريح باراك بمثابة نقطة فاصلة في العلاقة الأميركية – الكردية، لا سيما أنه يعيد إنتاج الصورة الكلاسيكية للعلاقات الأميركية – الكردية منذ عقود: دعم في لحظة الأزمة، ثم انسحاب عند تبدل الأولويات.
البعد الجيوسياسي للتراجع الأميركي
تصريحات توم باراك لا يمكن قراءتها بمعزل عن متغيرات الجغرافيا السياسية، منها:
محاولة إرضاء تركيا
أنقرة ترى في قسد امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وتطالب واشنطن مرارًا بقطع العلاقة معها. يبدو أن هذا التصريح يقدم تنازلًا سياسيًا مقصودًا لتركيا.
رسالة غير مباشرة للنظام السوري وروسيا
التنصل من قسد يعني إضعاف شرعية مشروع الإدارة الذاتية، وهو ما قد يُفهم كرسالة تقارب تكتيكي مع موسكو أو كخطوة لتقليص النفوذ الإيراني.
إعادة ترتيب الأولويات الأميركية
مع توجه واشنطن إلى تقليص تدخلها في “الحروب اللانهائية”، لم تعد سوريا من ضمن ملفاتها الساخنة، وهو ما يترك الحلفاء المحليين في مهب الريح.
تداعيات القرار على الداخل السوري والكردي
إن هذا الانسحاب الرمزي – السياسي من دعم قسد ستكون له نتائج ملموسة:
زعزعة الثقة بين قسد وسكان مناطق شمال شرق سوريا.
دفع الإدارة الذاتية إلى خيارات اضطرارية مثل الحوار مع النظام السوري تحت الضغط.
إعادة تنشيط خلايا داعش في ظل الفراغ الأمني المتوقع.
تزايد احتمالات التصعيد التركي ضد مناطق الإدارة الذاتية.
قسد والإدارة الذاتية – بين المقاومة السياسية والخذلان الدولي
رغم ما تُظهره قسد من ضبطٍ وانضباط سياسي، فإن خيبة الأمل من الحليف الأميركي ليست جديدة. ويبدو أن التصريحات الأخيرة تضع المشروع برمته أمام خيارين أحلاهما مر:
إما التراجع والاندماج القسري مع النظام السوري دون ضمانات.
أو المراهنة على حلفاء أوروبيين ودوليين آخرين، في ظل غياب اعتراف دولي حقيقي.
لكن المعضلة الكبرى تظل في أزمة الاعتراف السياسي: كيف يمكن لقوة قاتلت بالنيابة عن العالم ضد الإرهاب أن تُترك دون غطاء قانوني أو دعم سياسي؟
خيانة أم واقعية سياسية؟
تُعيدنا تصريحات توم باراك إلى لحظة الحقيقة: الولايات المتحدة لا تبني تحالفاتها على أساس القيم بل على أساس المنفعة الأمنية. وما إن تنتهي تلك المنفعة، يتم التخلي عن الحلفاء.
هنا تظهر المعضلة الكردية في تجلياتها الأوضح: شعب يقدم تضحيات جسيمة، لكنه يُعامل دومًا كأداة وظيفية في حسابات القوى العظمى. ربما لم يكن تصريح باراك مفاجئًا، لكنّه موجع. لأنه يأتي في لحظة حرجة، تحاول فيها قسد تأمين مستقبل لمناطقها ومشروعها، وسط فراغ استراتيجي وانكشاف ميداني قد يُهدد كل المكتسبات التي تحققت بعد سنوات من الدم والمعاناة.