أ.م.د. ژینۆعبدالله- جامعة السليمانية
هناك سؤال يلاحق كل منا في لحظات التأمل الصادقة: لماذا نعود دائماً إلى أماكن معينة؟ لماذا نشتاق إلى زوايا قد لا تحمل ذكريات جميلة، بل ربما تحمل ألماً أو وجعاً؟
هذه الأسئلة تزداد إلحاحاً في عصرنا هذا، عصر العزلة المتنكرة في ثوب التواصل الاجتماعي، حيث نتحدث مع العالم ونصمت أمام أنفسنا.

وقد وجدت إجابات مدهشة عندما قرأت كتاب “اللاأمكنة ؛ مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة لـ مارك أوجيه”* ، الذي يكشف لنا جماليات المكان في السرد العربي بنظرة عميقة تربط الأدب بالحياة.
العالم الفرنسي مارك أوجيه (1935 – 2023) قدم لنا نظرية رائعة تربط بين الذاكرة والمكان، وكأنهما توأمان لا ينفصلان. فالأماكن لا تبقي مجرد حجارة وشوارع، بل تتحول إلي كائنات حية تتنفس في ذاكرتنا وتنبض في قلوبنا.
كيف يحدث هذا السحر؟ كيف يتحول المكان الذي نعرفه بملامحه الخارجية إلى وطن صغير في أعماقنا؟
في زمننا هذا، تحولت أماكننا اليومية إلى محطات عبور، محطة المترو التي يذكرها أوجيه كمثال صارخ – نقضي فيها ساعات من حياتنا، لكنها تبقى مجرد مساحة وظيفية باردة. حتى منازلنا، التي كانت ملاذاً للراحة والدفء، صارت أماكن لأداء وظائف محددة: غرفة للنوم، ومطبخ للطعام، وصالة للجلوس.
هذا التحول المأساوي يزداد وضوحاً في عمارة مدننا الحديثة، خاصة في بلدان الشرق الأوسط. لقد تلوثت أعيننا بمناظر البناء الجامد الصامت، حيث تتشابه العمارات والشوارع حتي تفقد هويتها.
لا نعود نشم رائحة مميزة تدخل ذاكرتنا، ولا نسمع أصواتاً تحفر في وجداننا. فقدنا جماليات المكان بحجج العمران والتطوير الهندسي، بينما الفساد الإداري يأكل كل محاولة للحفاظ علي التراث والهوية.
مارك أوجيه يقسم تأثير المكان على الإنسان إلى ثلاثة أبعاد أساسية، وكل بُعد منها يكشف لنا سراً من أسرار العلاقة بين الروح والجغرافيا:
البُعد الأول: الذاكرة والحنين
الذاكرة لا تختار أماكنها بمعايير الجمال أو القبح، بل بمعايير التأثير والعمق. قد نتذكر مكاناً مؤلماً أكثر من مكان سعيد، لأن الألم يحفر أعمق في الذاكرة.
والإنسان، في محاولته الدائمة لاستعادة جزء من ذاته المفقودة، يعود إلى هذه الأماكن كمن يبحث عن قطع الأحجية المبعثرة من روحه. إنها محاولة لاسترجاع الزمن والعيش في الحنين، حيث تصبح الذكريات جسراً بين الماضي والحاضر.
البُعد الثاني: العلاقات الاجتماعية
كل مكان يبني شبكة من العلاقات الإنسانية. المدرسة ليست مجرد مبنى، بل ذاكرة جماعية لأجيال من الطلاب. والمقهي ليس مجرد مكان لشرب الشاي، بل ملتقي للأرواح والأفكار.عندما نهدم مدرسة أو نغلق مقهي، نحن لا نهدم حجارة، بل نمحو جزءاً من التاريخ الاجتماعي، نقطع خيوط الذاكرة الجماعية التي تربط الناس ببعضهم البعض.
البُعد الثالث: التاريخ والهوية

