ستران عبدالله
نحتاج إلى هذا الكتيب بل نحتاج إلى هذا العراق. ليس لأن العراق الملكي كان نموذجاً للديمقراطية والتشارك السياسي والازدهار الاقتصادي، هذا الكتيب بالذات يقول إن الأمر لم يكن كذلك قط، ويثبت بهدوء وموضوعية وعرض واف أن عراق الملكية وبغداد نوري السعيد لم يكن ذلك العراق الرومانسي الذي كلما ابتعدنا عنه زمنياً اشتقنا إلى خمره وأمره وإلى عراقته وأصالته أكثر، ربما نكاية بالجمهوري منه وصولاً إلى عصره الأمريكي المهلهل .
نحتاج إلى هذا العراق لأن أمثال الرموز والقيادات والبرامج التي يتحدث عنها هذا الكتيب توحي بالمثل العليا وتوصي بعظمة التفاؤل والثبات على القيم والمبادئ الجميلة مهما كان الزمن عسيراَ ومهما كانت جغرافية الحراك النضالي مقفرةً قياساً بجغرافية الزمن الحالي حيث أصبح العالم قرية صغيرة تتفاعل و تتناحر.
تتحدث الباحثة جين سنغلتون في كتابها الموسوم (الحزب الوطني الديمقراطي العراقي في العهد الملكي) عن الإرهاصات الفكرية والسياسية التي قادت إلى ظهور الحزب الوطني الديمقراطي في العراق و إلى نبوغ قادة كبار أمثال (كامل الجادرجي ومحمد جديد وحسين جميل) الذين شكلوا نبعاً صافياً للوطنية العراقية بأبها صورها ولفكر الاشتراكية الديمقراطية في بواكير حضورها العراقي يوم كانت الوطنية تنحصر في :
-تيار محافظ مخملي يدعو إلى دعم استقرار الوطنية الملكية وتثبيت أركانها بقوة مثلها الأولى وبضعف بصيرتها في عهد ترنحها الأخير قبل سقوطها عام 1958. وتعتبر هذا الحل المخملي بمساعدة الاحتلال الانكليزي قدرا نهائيا لا فكاك منه.
– وتيار شعبوي ممنوع ومقهور الا ماخلى من فترات الانفراج القصيرة بغلبة الحروب الكونية (الحرب العالمية الثانية 1939-1945) أو نتيجة تصارع اجتماعي طاغ في مجتمع عشائري تذكيه نفوذ تحالف الأقطاع وكبار الملاك مع البلاط حيث يولد التضييق على الحريات والفاعلية السياسية والفقر الشديد انفجار اجتماعي وتشوه بنيوي يغذيه الخلاف المزمن بين العسكر والسياسة.
في ظل هذا التزاحم فإن مجرد محاولة تبني طريق تدريجي للتغيير السياسي و تطوير نهج نبيل للوطنية تتسحق التقدير كما تستحق التأمل والاستزادة.
طبعا كل القراء النهمين يعلمون إن كتب ومصادر كثيرة تؤرخ لتجربة السيد كامل الجادرجي ورفاقه بكل تعرجات تلك التجربة منذ دخولهم في تيار جماعة الأهالي وشبابه الطموحين ورموزه المتألقين أمثال جعفر أبو التمن وصولا لتجربة دعم حكومة ائتلافية برئاسة حكمت سليمان عقب انقلاب بكر صدقي وانتهاء بتأسيس الحزب الوطني الديمقراطي بكل تفاصيل صعوبات النضال الحزبي والبرلماني والصحفي في العهد الأخير من الملكية إلى العهد الأول من جمهورية قاسم. بل أن افتتاحيات صحيفة الأهالي وصوت الأهالي التي دبج بيراع الجادرجي نفسه والتي جمع أخيرا في كتاب أنيق يشكل ولحد الآن مصدرا ثريا لأدبيات السياسة والفكر الملتزم في النهضة العراقية الحديثة بعد طول سبات في العهد العثماني مما لا يمكن الاستغناء عنه لكل فاعل في السياسة والمجتمع.
ولكن أهمية التقييم المكثف الذي تقدمه السيدة جيني سنغلتون يكمن في تشخيصها الموضوعي لجوانب الضعف والتألق في تجربة الحزب الوطني الديموقراطي في العهد الملكي، فهي تقف طويلا إزاء حدية الصراع ومن ثم تراخيه الملزم بين الطبقة السياسية الحاكمة بقيادة العجوز المحنك نوري السعيد ممثلا عن المدرسة البيروقراطية العثمانية التي نقلت سلاح الخدمة من كتفها التركي إلى الآخر الانكليزي وطبقة سياسية صاعدة بقيادة الثلاثي الجادرجي وحديد وجميل يملكون أفكار لعصر جديد يجمع بين روح وطنية يافعة ممزوجة بطروحات اجتماعية تدفع باتجاه الاشتراكية الديمقراطية مقلدا لتجربة حزب العمال البريطاني تارة ومسايرا لميل يساري يستفيد من ديناميكية اليسار العراقي دون الإغراق في وصمه بالشيوعية في مجتمع متدين ينعت الشيوعية بالإلحاد، تارة أخرى. وتصل المؤلفة إلى نتيجتين مهمتين تلخصان القصة العراقية برمتها: الميل العام والسهل لاستخدام العنف والقوة لتحريك السياسة بدلا من الاعتدال والتدريجية، وعدم تمكن الحزب من بناء قاعدة جماهيرية واسعة خارج النخبة الصغيرة المتمثلة بالطبقة الوسطى في مجتمع استقطابي وفي ظل ديمقراطية هشة وهزيلة بحسب وصف المتعاطفين مع التجربة الملكية ومزيفة بحسب وصف الناقمين عليها والمؤلفة جيني سنغلتون منهم.
ورغم كل مثالب السيرة والمسيرة لتيار الجادرجي الا أن شيئين في ذلك كله يستحقان الإشادة والتوقير: مسار الأمل غير المنقطع رغم كل المعوقات السياسية المفتعلة وتضييق الخناق أمام نشاطها العلني والشرعي. بدأ بتقييد مساهمتها في الحراك الانتخابي والبرلماني وإلى منع توسعها مناطقيا رغم محاولتها في الخروج من شرنقة المركزية البغدادية، وتبني رؤى سياسية وفكرية متكاملة ومحكمة و متوازنة بطرح حلول ديمقراطية ومجتمعية بل واقتصادية في الكثير من الأحيان للمشكلة العراقية (كتابات الاقتصادي محمد حديد مثالا) وهي حلول قدمت لعراق النصف الأول من القرن العشرين و يبدو أن الخطوط العريضة للكثير منها مازالت صالحة ليومنا في ظل العثرات التي نمر بها الآن.
وفي الأخير إذا كان هناك من كلام نقوله عن العهد الملكي فهو أن هذا العهد بكل مصداته لمنع التنمية السياسية والديمقراطية خارج السرب الملكي كان يبقي على فسحة ضوء للأمل رغم كل الألم.
———-
الحزب الوطني الديمقراطي العراقي في العهد الملكي..، جيني سنغلتون.. المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع ١٩٩٩.