عباس عبد الرزاق
في خضم صراع محموم لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط، تتبلور ملامح تحالف إقليمي دولي تقوده إسرائيل بشكل غير معلن، وبمشاركة فعالة من دول مثل الإمارات، قطر، مصر، والسعودية. و اخیرآ سوریا تحالف لا يهدف فقط إلى تحجيم النفوذ الإيراني، بل إلى إعادة هندسة توازنات القوى في المنطقة بما يضمن تفوقًا استراتيجيًا إسرائيليًا طويل الأمد. وسط هذه اللوحة المعقدة، تقف تركيا في زاوية حرجة: لا حليفة تمامًا، ولا خصمًا مباشرًا، لكنها الأكثر قلقًا من مآلات المشهد.
تل أبيب ترسم والخليج ينفذ
التحول الأبرز في السنوات الأخيرة لم يكن صعود إسرائيل كقوة عسكرية أو تكنولوجية فحسب، بل تمددها الناعم إلى قلب العواصم العربية، عبر التطبيع والمشاريع الاقتصادية والاستخباراتية. من “اتفاقيات أبراهام” إلى تنسيق أمني غير مسبوق، باتت إسرائيل تمسك بخيوط اللعبة، فيما تتقاسم دول الخليج وبعض العواصم العربية معها إدارة الملفات الحساسة: من أمن الطاقة إلى ممرات التجارة، ومن الحرب السيبرانية إلى موازين القوى في سوريا ولبنان واليمن.
الحليف المتردد والخصم المحتمل
تركيا، القوة الإقليمية الطموحة، تجد نفسها محاصرة بين مشاريع الهيمنة تلك. علاقاتها المعقدة مع إسرائيل، المتأرجحة بين التعاون الاقتصادي والتوتر السياسي، ومواقفها المتذبذبة من بعض العواصم الخليجية، تجعلها في موقع المراقب القلق، أكثر منها في موقع الفاعل الحر.
رغم أن أنقرة لا تنتمي رسميًا لهذا المحور الجديد، فإنها تدرك أن تحييدها، أو حتى استنزافها، جزء من حسابات “التحالف غير المعلن”. ولذلك، تعتمد تركيا سياسة المناورة: تقارب محسوب مع السعودية، مصالحة حذرة مع الإمارات، وخطاب مرن تجاه مصر، لكنها لا تزال خارج غرفة القيادة الفعلية.
شبح التقسيم والضغط الاقتصادي
ما يقلق تركيا أكثر من غيره هو احتمال إقامة كيان كردي مستقل على حدودها، في شمال سوريا أو العراق، بدعم أو سكوت ضمني من التحالف العربي–الإسرائيلي. هذا السيناريو، إن تحقق، سيؤجج النزعة الانفصالية داخل الداخل التركي، ويُهدد وحدة البلاد.
إلى جانب ذلك، تتعرض تركيا لضغط اقتصادي خانق: تراجع قيمة الليرة، استنزاف الاحتياطات، وانسحاب الاستثمارات الخليجية والغربية في لحظات حرجة. كل ذلك يُستخدم كورقة ضغط لدفع أنقرة نحو تقديم تنازلات سياسية خارجية، والتراجع عن طموحاتها التوسعية.
إيران حاضرة… ولكن!
ورغم أن إيران تُعد الخصم التقليدي لهذا التحالف، إلا أن تركيا تدرك أن لعبة الاستقطاب قد تُحوّل طهران إلى كبش فداء في مرحلة ما، لكنها قد تكون هي الهدف التالي في حال فشلت في ضبط توازناتها. من هنا، يظهر التنسيق الأمني بين أنقرة وطهران في بعض الجبهات، لكنه لا يتجاوز حدود “المصلحة المؤقتة”.
الكرد الورقة المؤجلة أم الضحية القادمة؟
من منظور تركي، الورقة الكردية هي الأخطر. فبينما تسعى أنقرة لتفكيك أي كيان كردي ناشئ خارج حدودها، تجد نفسها في مواجهة تحركات كردية مدعومة أحيانًا من الولايات المتحدة، وأحيانًا أخرى من لاعبين خليجيين. وهو ما يجعل القضية الكردية أشبه بـ”القنبلة المؤجلة”، التي يمكن تفجيرها في وجه تركيا متى ما استدعت مصالح التحالف ذلك.
تركيا تُعيد التموضع… ولكن إلى متى؟
تركيا اليوم ليست لاعبًا معزولًا، لكنها أيضًا ليست جزءًا من المحور المسيطر. هي قوة مناورات، لا مواجهات. تدير ملفاتها بأدوات متعددة: من التصعيد العسكري المحدود، إلى الانفتاح الدبلوماسي البراغماتي. لكنها تعرف أن خارطة الشرق الأوسط يُعاد رسمها دون استئذان، وأن الحفاظ على تماسكها الداخلي، واستقلالها الإقليمي، يتطلب أكثر من خطابات أو صفقات مرحلية.
في لعبة السيطرة الجيوسياسية التي تدور خلف الكواليس، تركيا ليست في قلب الطاولة، بل على أطرافها. وكلما تأخرت في حسم خياراتها، اقتربت أكثر من أن تصبح جزءًا من “الهدف”، بدل أن تكون جزءًا من “القرار”.


