د.محمد السهر
لم تعد قيادة السيارة في الشوارع العراقية تتمثل في ثلاثية الفن والذوق والأخلاق التي كنا نقرأها على واجهات السيارات والساحات سبعينيات القرن الماضي، لكنها صارت تعبير حي عن سلوك متوتر قلق ومنفعل يسوده العنف والتزاحم.. ربما يٌرجع البعض هذا الأمر إلى العدد الهائل للسيارات في مقابل الطرق والشوارع التي لم تعد تستوعبها، لكنه ليس السبب الوحيد..
في بلدٍ أنهكته الحروب، واختلط فيه لهيب الشمس بحرارة الدم، لم يعد سائق السيارة مجرد شخصٍ يبحث عن وجهة يبتغي الوصول إليها، بل صار مشروع غضبٍ متحرك، وقنبلة موقوتة تنفجر لأتفه الأسباب.
في شوارع العراق، لا تكتفي الطرقات بمطباتها الإسفلتية، بل تنبض كل لحظة بمطبات نفسية أشد قسوة: عناد، تشنج، لا مبالاة، واستعداد دائم للعنف.
ما حدث ليلة البارحة في محطة وقود في أربيل، حين قُتل ثلاثة شباب برشقات بندقية بسبب خلاف تافه لا يتجاوز قيمته خمسة دولارات، ليس حادثًا معزولًا. بل هو مرآة دامية لانهيار القيم المجتمعية، وشلل المنظومة القانونية، وتفكك الأعصاب الوطنية.
فما الذي يجعل سائقي السيارات في العراق أكثر عدوانية من غيرهم؟
إنه ليس مجرد الحرّ اللاهب، ولا اختناقات المرور، بل هو إرث طويل من القهر، وغياب الأمل، والإفلات من العقاب. هو مجتمع تعايش مع ثقافة الموت حتى بات يراها حلاً مألوفًا للخلافات اليومية. هو لا يثق بالقانون، ولا يعتقد أن العدالة ستنصفه، فيأخذ زمام الانتقام بيده، ويراه بطولة.
ومع أن حوادث المرور في العراق تفتك بمئات الأرواح سنويًا، إلا أن الكارثة الأكبر تكمن في التحول النوعي لهذا الخطر: من حوادث عرضية إلى جرائم ناتجة عن سلوك عدواني ومزاج منفلت. التقاطعات تحولت إلى ساحات صراع، والمرائب إلى مسارح شجار، ومحطات الوقود إلى بؤر اشتباك.
أين الدولة من كل هذا؟
رغم وجود قوانين مرور وعقوبات جنائية، إلا أن التطبيق الانتقائي، وتفشي الرشوة، وغياب الردع الحقيقي، جعلت من (هيبة القانون) مجرد شعار على الورق. السلوك المتوحش في الشوارع لا يُحاسب عليه أحد، بل أحيانًا يُكافأ بمنشورات على وسائل التواصل تصف الجاني بـالرجولة.
لقد أصبح من الملحّ إعادة النظر ليس فقط في البنية التحتية للطرق، بل في البنية النفسية-الثقافية للسائق والمجتمع. نحتاج إلى ما هو أعمق من قوانين المرور: نحتاج إلى ترسيخ ثقافة الحياة، واستعادة الإيمان بأن العقلانية ليست ضعفًا، وأن التسامح ليس عارًا.
ما لم تتم مراجعة جذرية لهذه الثقافة السائدة، سيبقى العراق في حالة حرب… حرب من نوع آخر، لا تُخاض بالمدافع، بل بالأنفاس المكتومة خلف المقود، وبالدماء المسفوكة على الإسفلت.

