تعقبا علی مقال الاستاذ عماد احمد
خالو گوڵمرای والسياسة الكردية: لا نشتري الشجار بعد اليوم
عباس عبدالرزاق
من الحكاية إلى السياسة
کتب الاستاذ عماد ( ، في زحمة الأحداث السياسية وتغير الاصطفافات، عادت إلى ذهني حكاية كردية شعبية من شوارع خانقين وبساتين جڵاوە، تحمل في طياتها حكمة تختصر ما نعيشه اليوم من واقع معقد. )
يحكى أن “حاجي مايخان” نادى من بعيد على “خالو گوڵمرای”، محذراً إياه من أن شجارًا يُعرض للبيع قرب نوبته على نبع مياه البستان، فردّ خالو قائلاً: “اەلشجار يُعرض للبيع، لكني لا أشتريه!”
هذه العبارة العابرة التي قالها خالو گوڵمرای ببساطة فلاحٍ من أهل جڵاوە، تختصر تحولاً جوهرياً في النظرة إلى مفهوم الصراع السياسي، ليس فقط محليًا، بل في الإقليم والعالم.
زمن السلاح تغيّر
طوال العقود الماضية، كانت القضية الكردية في عموم كردستان مرتبطة إلى حدّ بعيد بالكفاح المسلح والمقاومة المسلحة في مواجهة الأنظمة القومية والمركزية التي جزّأت كردستان دون إرادة شعبها. لكن المتغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، فرضت واقعًا جديدًا لم يعد فيه الرهان على “السلاح” منطقيًا أو مجديًا.
لقد دخلت الإنسانية في مرحلة ما بعد الأيديولوجيات العنيفة، حيث لا مكان لحلول تفرض نفسها عبر فوهة البندقية. حتى الصراعات التي ما تزال قائمة لم تعد تحظى بنفس المشروعية، بل باتت تُمثّل عائقًا أمام السلام والتنمية.
من الرصاص إلى الاقتراع
في هذا السياق، يُصبح موقف خالو گوڵمرای مَثَلًا سياسيًا: لماذا نشتري شجارًا لا مردود له؟
لقد أدركت الحركة الكردية، لا سيما في إقليم كردستان العراق، ضرورة التحوّل من الكفاح المسلح إلى النضال السياسي الديمقراطي، عبر صناديق الاقتراع ومؤسسات الدولة ومبادئ القانون والدستور.
لم تعد استراتيجية “السلطة من فوهة البندقية” تجدي نفعًا، بل بات التمثيل السياسي، وبناء التحالفات، وممارسة الضغط المدني والحقوقي أدوات أكثر فاعلية واستمرارية.
لا قوة بلا تحالف
من جهة أخرى، يُدرك الكرد واقعيًا أنهم لا يستطيعون فرض رؤيتهم في كل من الدول الأربع (العراق، إيران، تركيا، سوريا) بمعزل عن الداخل الوطني أو الإقليمي. فالمرحلة تتطلب شراكات وتوافقات وتحالفات ذكية، قادرة على تحقيق الممكن دون الوقوع في فخ الصدامات الفاشلة.
فالعمل ضمن إطار الدولة، والضغط من داخل المؤسسات، والتفاعل مع النسيج الاجتماعي والوطني، يشكّل اليوم السبيل الأكثر نضجًا في الدفاع عن حقوق الشعب الكردي.
درس من خانقين إلى المستقبل
خانقين، المدينة التي تنبض ببساتينها وتاريخها ونهرها، شهدت حكايات من الصراع والنزوح والمصالحة. وبين نوب الماء والتمر والتسوق من بازاراتها القديمة، خرجت كلمات مثل كلمات خالو گوڵمرای، التي تكاد تكون مانفيستو سياسيًا دون أن يدري قائلها.
ففي زمن تُختبر فيه التحالفات، وتُرسم خرائط القوى، ويُعاد تعريف العداوات، يبدو أن من يشتري الشجار خاسرٌ سلفًا، وأن من يراهن على لغة العقل والسياسة قد يكون هو الرابح في المدى الطويل.
الاتحاد الوطني وتجربة السلام
منذ تأسيسه، تبنّى الاتحاد الوطني الكردستاني فلسفة السلام والحوار، ولم تكن دعوته للديمقراطية والشراكة العراقية شعارًا، بل جوهرًا لخطابه وممارسته.
لقد آمن بأن الديمقراطية في العراق تقابلها حق تقرير المصير لكردستان، وأن التقدم لا يأتي بالعنف بل بالتفاوض والبناء والانفتاح.
يعلّمنا خالو گوڵمرای أن بعض النزاعات تُعرض للبيع كل يوم، ولكن الحكمة تكمُن في الامتناع عن شرائها.
وبينما تتبدل التحالفات والأدوات، يبقى جوهر النضال الكردي راسخًا: حقوق مشروعة، وسُبل ناضجة، وحكمة مستمدة من الأرض والتاريخ.

