الكاتب والصحفي.. احمد عبدالحسين
يغضب الإنسان حين يشعر بأن أحداً ما خدعه أو حتى حاول خداعه، لكنه يرضى عن طيب خاطر بأن يخدع نفسه، وغالباً ما تنطلي عليه خدعته، ويصدّقها. ولا أحد، لا أحد أبداً بمقدوره خداعك أكثر من نفسك التي بين جنبيك.
في الآخرة يكون “الإنسانُ على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”، أما في حياتنا هذه فإن معاذير الإنسان الوهمية قويّة، حياتنا تكاد تكون سلسلة معاذير إذا فحصناها بعين المنطق تُرى مضحكة لفرط تفاهتها.
جمهور السياسة عندنا منشغلون بمعاذير من هذا القبيل. أوهموا أنفسهم بأنّ تخندقهم وراء هذا الفصيل السياسيّ أو ذاك نتاج فكرة يتبنونها، أو موقف من الحياة يبجّلونه. أوهم ابنُ الطائفة نفسه بأنّ مقدّسات طائفته تريد منه أن يكون مع هذا السياسيّ الذي يلعلع ليل نهار باسم الطائفة، لقّن نفسه هذه الكذبة حتى أيقنها وأشربتْ في قلبه، وهو يرى أنّ السياسيّ الملعلع نفسه لا مقدّس لديه حقاً سوى المال، وسائر الموارد الأخرى ـ كالدين والمذهب والأخلاق ـ دعامات وإعدادات ومعاذير للتمويه على المطلب الأصل: المال لا شريك له.
المسألة بسيطة كما ترون: هناك مال وفير في العراق، ولا أحد يراقب من أين يأتي وإلى أين يمضي. والمتسابقون لتحصيله بحاجة إلى أنصار ومريدين ومقاتلين وجمهور وإعلاميين. ولذا فمن الضروريّ أن يُغلَّف هذا الفعل غير الإخلاقيّ بغلاف مناسب، وكلما كان الغلاف مقدساً كان أنسب.
هذه الإعدادات الدينية التي يتذابح عليها الناس في حين يضحك الساسة، ضرورية لتغليف اللصوصية تماماً كضرورة جلد الإنسان وبشرته ومظهره الخارجيّ الذي يستر مشهداً قبيحاً من الشرايين والأوردة والأمعاء.
ليس في العراق صراع سياسيّ ايديولوجي من أي نوع ولون. هناك صراع أوحد لا ثاني له، وهو الصراع على المكتسبات الماديّة، وعلى السلطة والنفوذ اللذين هما مقدمة للمال أيضاً. أما “الحقّ” الذي تتذابح عليه الجماهير المؤمنة فهو تفصيل مكمّل للمشهد. نحن والحقّ الذي نقدسه ومعاركنا واختلافاتنا وسخريتنا من بعضنا البعض وتفجيراتنا وتهديداتنا وسلاحنا وكتابتنا وقتلانا وجرحانا وحياتنا، كلها مجرد إعدادات ثانوية في مشهد ينتهي بذهاب الأموال الطائلة لرجال لا يخدعون أنفسهم لكنهم قادرون على خداع الآخرين. الكبارُ يعرفون ويضحكون. والصغار يخدعون أنفسهم ويبكون.