رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي
عشية زيارته إلى إفريقيا، كتب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مقالا نشرته جريدة “الأهرام” المصرية، حول آفاق العلاقات الروسية الإفريقية في الظروف الجيوسياسية الراهنة.
حمل المقال عنوان “روسيا وإفريقيا.. الشراكة نحو المستقبل”، وتضمن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الروسية بشأن إفريقيا، القارة التي تمثل بحق مستقبل العالم، بعد قرون من الاستعباد، تلاها قرن من الاستغلال، ثم عقود من التجاهل بعد هذا وذلك.
إلا أننا، في روسيا، وكما يقول لافروف، دائما ما حرصنا وثمننا العلاقات الروسية الإفريقية، القائمة في جوهرها على أواصر الصداقة والتعاون، وحقا نوه الوزير إلى أن بلدنا، الذي لم يلطخه يوما دنس الاستعمار، دائما ما دعم بكل إخلاص وتفان قضايا التحرر والاستقلال في عموم القارة الإفريقية وحول العالم، وطالما ساعد الاتحاد السوفيتي شعوب القارة في وضع أسس الاقتصاد الوطني، وترسيخ القدرة الدفاعية، وتدريب الكوادر المؤهلة في معاهدنا ومؤسساتنا التعليمية المختلفة، وبالفعل يذكرنا في إفريقيا زملاء كثيرون، من بينهم من أصبح يشغل اليوم مواقع القيادة والمسؤولية في الدول الإفريقية.
وفي قمة مهيبة، عقدت في سوتشي الروسية، أكتوبر من العام 2019، حضرها نحو 44 من رؤساء دول وحكومات القارة الإفريقية، وشارك بها نحو 10 آلاف مشارك من 54 دولة إفريقية وروسيا، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سياسة بلاده تجاه إفريقيا، التي تستند إلى جانب الجذور والتاريخ المشترك، إلى براغماتية الحسابات الجيوسياسية، وآفاق التعاون المشترك والمنفعة المتبادلة القائمة على احترام السيادة وحق تقرير المصير وتبادل الأفكار والرؤى ووجهات النظر.
لم تكن موسكو حينها تتوقع ما حدث بعد ذلك التاريخ بثلاث سنوات، على الرغم من أن الأحداث كانت تحمل درجة من التوتر والقلق والتآمر والخطط الخبيثة، تكشفت للعالم فيما بعد. إلا أن ما كان ينقص تلك القمة هو غياب الأيديولوجيا، التي كانت عنوان العلاقات السوفيتية الإفريقية، وهو ما يحضر الآن بعدما وقعت الواقعة، وانقسم العالم بين من يحاول إيقاف عجلة الزمن، والتشبث بهيمنة القطب الواحد، وينسحق أمام سيادة الغرب، الذي طالما استعمر واستغل وأذل إفريقيا، ومن يدرك أن عالم القطب الواحد قد انتهى، بينما تقف الشعوب على أعتاب عالم جديد، وشمس نظام متعدد الأقطاب تبزغ من بين خيوط الظلام، لا بد وأن يكون لإفريقيا في هذا العالم الجديد دور وصوت وشأن يليق بما قدمته وتقدمه القارة للحضارة البشرية.
وكما افتتح القمة منذ ثلاث سنوات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برفقة نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، استهل لافروف جولته الإفريقية من العاصمة المصرية القاهرة، حيث استقبله رئيس الجمهورية تأكيدا على أهمية الزيارة، وكون القاهرة الشريك الرئيسي لموسكو في القارة الإفريقية وأحد أهم الشركاء في منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الضغوط التي تمارس على مصر لتغيير موقفها أو الانحياز للموقف الغربي من الأزمة الأوكرانية، لا سيما في عدم انضمام مصر للعقوبات على روسيا، إلا أن مصر، ومعها المنطقة العربية، وجزء كبير من الدول الإفريقية، تقف على الحياد، في إعلاء لمبادئ المصالح المشتركة، واستنادا إلى أرضية صلبة من مشروعات البنى التحتية الضخمة، والتي يأتي على رأسها محطة الضبعة لتوليد الطاقة النووية (بتكلفة استثمارية قدرها 29 مليار دولار)، ومحور تنمية قناة السويس (حجم الاستثمارات المتوقعة في هذه المنطقة 8 مليار دولار)، وصفقات الأسلحة، وكذلك صادرات القمح الروسية، والسياحة.
وفي كلمته بمقر جامعة الدول العربية، أشاد لافروف بموقف الدول العربية المعتدل تجاه الأزمة الأوكرانية، مؤكدا انفتاح روسيا على الحوار مع العالم العربي، وجميع دول العالم، بينما اتفق مع أمين عام الجامعة، أحمد أبو الغيط، على تحديد خطط إضافية لتعزيز العلاقات بين الجانبين في مختلف المجالات.
وقد شرح لافروف الأسباب التي حتمت بدء موسكو لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، حيث أوضح المخاوف المشروعة بشأن الأمن القومي الروسي، وتجاهل تلك المخاوف من قبل “الناتو”، وحصول أوكرانيا على بنى تحتية وترسانة أسلحة غربية، تتكشف أمامنا يوما وراء يوم في الصراع الدموي.
كما لفت لافروف إلى تعمد نظام كييف منع اللغة الروسية في شرق أوكرانيا الذي تقطنه أغلبية تنتمي إلى الثقافة الروسية، ونشر العنصرية ومعاداة روسيا ودعم النازية، مذكرا بأن “الغرب هو من عرقل عملية التفاوض”. وأشار لافروف إلى أن الأوروبيين اعتبروا أن من حق “الناتو” الهيمنة وفعل ما يحلو له، وهو ما ترفضه موسكو جملة وتفصيلا، حيث شدد على عدم إمكانية أن تحافظ دول الحلف على أمنها بتهديد أمن دول أخرى.
بشأن قضية الساعة، تصدير الحبوب والأزمة الغذائية التي افتعلها الغرب بعقوباته ضد روسيا، وزاد من بلة الطين حماقة النظام في كييف بتلغيم الموانئ والمياه الإقليمية الأوكرانية، أكد لافروف، في مؤتمر صحفي، مع نظيره المصري، سامح شكري، على “التزام مصدري الحبوب الروس بالوفاء بجميع التزاماتهم”.
وكانت روسيا قد وقعت مع ممثلي أوكرانيا بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، اتفاقيات بشأن تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى من أوكرانيا، حيث أكدت روسيا من جانبها أن الأزمة الغذائية العالمية لا تتوقف على صادرات الحبوب الأوكرانية وحدها، وإنما تتوقف كذلك على القيود غير المباشرة التي فرضها الغرب على الحبوب والأسمدة الزراعية الروسية، التي تشكل حجما وتحمل تأثيرا أكبر على الأزمة الغذائية العالمية، وبحسب نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، فرحان حق، فسوف تنطلق أول سفينة محملة بالحبوب في الأيام المقبلة، حيث يقوم مركز تنسيق مشترك، أنشئ خصيصا في إسطنبول لرصد تنفيذ الاتفاقيات، يقوم، بالتعاون مع ممثلين عن قطاع الشحن البحري بوضع بروتوكول مفصل لرحلات نقل الحبوب.
وتترقب كل من مصر وإريتريا وتونس والسنغال وزيمبابوي وكينيا هذه الرحلات، بفارغ الصبر، لما تحمله من حبوب استراتيجية يتوقف عليها الوضع الاجتماعي والأمني والسياسي في البلاد.
على الجانب الآخر من المتوسط، اتهم الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، روسيا بشن “حرب ضد وحدة أوروبا”، ودعا الدول الأوروبية إلى “عدم الانقسام” و”استكمال العمل الذي بدأته هذه الدول وعدم تعريضه للتدمير”. ولا أعلم عن أي وحدة يتحدث السيد شتاينماير، عن أطماع بولندا في الغرب الأوكراني، أم عن ضغينة دول البلطيق و”الروسوفوبيا” المزمنة التي تعاني منها هذه الدول المجهرية، أم عن مشكلة سلوفاكيا والمجر والتشيك التي لن تتمكن من الحياة من دون النفط الروسي حتى 2024، أم عن مشكلة نقص مستويات ضخ الغاز الروسي لألمانيا، والهلع الذي أصاب البلاد بعد امتناع كندا (بذريعة العقوبات الغربية) عن إعادة “توربين” خط أنابيب “السيل الشمالي”، الذي تقوم بصيانته الدورية شركة “سيمنس”، أم عن مشكلة الحكومة في إيطاليا، أم عن المشكلات الاقتصادية في البرتغال وإسبانيا، أم عن مشكلة اللاجئين الأوكرانيين، بعد زملائهم السوريين والأفغان، ومشكلات البطالة، والمشكلات الاجتماعية التي نشأت وستنشأ خلال السنوات القليلة المقبلة؟!
وبعيدا عما تسببت ولا زالت تتسبب به أوروبا بانجرارها وراء سياسات الأخ الأكبر فيما وراء المحيط، فيما يتعلق بقضية الحبوب، وارتفاع أسعار الغاز، والتضخم، وارتفاع أسعار السلع، ألا يزال لدى السيد شتاينماير ما يكفي من ضمير ليتحدث عن “الأساس المشترك للقيم والنظام السلمي” الأوروبي؟
يتهم الرئيس الألماني روسيا بأنها “لا تكتفي بإعادة النظر في الحدود، وإنما تصل إلى حدود التشكيك في طبيعة الدولة الأوكرانية”، الحقيقة أن روسيا لا ولم تهاجم أوكرانيا يا سيد شتاينماير، بل كان “الناتو” هو من اكتسح أوروبا من الغرب إلى الشرق، وتمدد حتى وصل إلى حدودنا الروسية، ونصب صواريخه ورؤوسه النووية حتى بات على أعتاب موسكو، بمساعدة ثلة من الخونة يقبعون الآن على رأس النظام في كييف، يستخدمون الشعب الأوكراني ستارا حاميا لنازيتهم وعنصريتهم البغيضة ضدنا، ويستخدمون معها كراهية البولنديين وجمهوريات البلطيق وقودا للحرب ضدنا، ويغدقون العطايا والأسلحة لهؤلاء، ولا يعنيهم القيم أو الأسس التي تتحدث عنها، بل هي حرب وجودية ضدنا.. والحقيقة يا سيد شتاينماير أن روسيا تعيد النظر لا في “طبيعة الدولة الأوكرانية”، وإنما في “طبيعة النظام العالمي” الذي أودى بالبشرية جمعاء إلى هذا المأزق التاريخي.
قرأت تقريرا تحليليا حول العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، أعده أحد المراكز “الاستراتيجية”، تحدث بإسهاب عن ما أسماه “الصراع الروسي الأوكراني العميق وطويل الأمد”، بينما انتزع ذلك التقرير الصراع من سياقه الإقليمي والدولي والاستراتيجي واكتفى بالبعد التاريخي للعلاقة المشتبكة بين أحد جمهوريات الاتحاد السوفيتي المتفكك وروسيا، وتعمق في تحليل الوضع الداخلي الأوكراني، مع إهمال تام لما يحيط بالدولة الأوكرانية غربا، بل وبما تتضمنه الدولة الأوكرانية من عناصر مؤججة للصراع سواء على المستوى العرقي أو الديني أو السياسي أو الاقتصادي، تعامل التقرير ببساطة شديدة مع الصراع بوصفه صراعا “روسيا أوكرانيا”، وكأن الدولة الروسية هي دولة صغيرة من دول وسط أوروبا، تتعارك مع جارتها بشأن خلافات على الحدود.
هذا بالفعل ما يروج له الغرب، وهذا ما يقوله السيد شتاينماير في تصريحاته، وهذا ما تدرك كذبه وزيفه منطقتنا وتدركه إفريقيا، لما نعرفه ويعرفه الجميع عن ألاعيب الغرب وتزييفه للحقائق وللتاريخ، واستغلاله للشعوب، وهو ما نجحت روسيا بعمليتها العسكرية الخاصة من كشفه أمام العالم أجمع.
إن اللاجئين الفلسطينيين، وفقا لتعريف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “الأونروا”، هم أولئك الأشخاص الذين كانوا يقيمون في فلسطين خلال الفترة ما بين حزيران/ يونيو 1946 وحتى أيار/ مايو 1948، والذين فقدوا بيوتهم ومورد رزقهم نتيجة حرب 1948. وعندما بدأت الوكالة عملها، عام 1950، كانت تعمل على الاستجابة لاحتياجات ما يقرب من 750 ألف لاجئ فلسطيني. اليوم يقترب هذا العدد من 5 مليون لاجئ فلسطيني يستحقون التمتع بخدمات “الأونروا”.
نحن يا سادة نتحدث عن 74 عاما من الشتات واللجوء لشعب احتلت أراضيه، ويقف المحتل الإسرائيلي الغاصب أمام سمع وبصر كل العالم “الديمقراطي الحر”، ويحاول إقناعنا بأن “الخطر الإيراني” هو الذي يهدد المنطقة، لا “الخطر الصهيوني”. نحن نتحدث عن القضية الأكثر عدلا وإنسانية في العالم، والصراع الدموي الذي راح ضحيته مئات الآلاف وملايين العرب في فصول ممتدة عبر عقود، دون أن يتمكن الغرب، الذي يتشدق اليوم بالإنسانية والقيم والأخلاق، من استرجاع الحق وإقامة العدل.
نفس الغرب الذي يمد أوكرانيا بالأسلحة، بعد أن أوشك على نصب الرؤوس النووية على الأراضي الأوكرانية في أكبر القواعد العسكرية التي كان “الناتو” يبنيها هناك، ونفس الغرب الذي يغدق على أوكرانيا بمليارات الدولارات واليورو، دفاعا عن “الحرية” و”الديمقراطية”، هو من يغض الطرف عن الممارسات العنصرية ليس فقط للاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين العزل، وإنما حتى للنظام في كييف ضد أهالي دونباس، ومواطني شرق أوكرانيا. لقد فضحت العملية العسكرية الروسية الخاصة ازدواجية معايير الغرب أمام العالم، ولا يكتفي المسؤولون الأوروبيون بذلك بل يغازلون شعوبهم، التي تعاني الآن من مشكلات اقتصادية جراء السياسات الاقتصادية والعقوبات الحمقاء، بشعارات “الحرية” و”الديمقراطية” في أوكرانيا، في محاولات يائسة للي وإخفاء الحقائق، وتزييف التاريخ. ليضع الشيوعية والنازية في نفس السلة، ويساوي بين أبطال الاتحاد السوفيتي الذين حرروا أوروبا من نير النازية، وبين النازية، في سابقة خطيرة نوه إلي خطورتها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مجابهة موجة عاتية من النازية الجديدة، والإطاحة بالنصب التذكارية لأبطال الحرب العالمية الثانية السوفييت في عدد من المدن الأوروبية.
دعونا نتحدث بصراحة: ما يعنيه السيد شتاينماير أن روسيا طرحت السؤال الوجودي الحقيقي على العالم، وهو السؤال الجوهري الذي يذهب لافروف الآن إلى إفريقيا ليطرح رؤيتنا الروسية له: والسؤال هو في واقع الأمر محور الحرب بين روسيا والغرب، والتي اندلعت بسببها العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وهو “أي عالم ترغبون في العيش فيه؟ عالم يهيمن عليه الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أم عالم متعدد الأقطاب تسوده قيم المساواة والعدل وحق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادة الدول على أراضيها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة؟”.
هذا هو لب القضية، وإفريقيا، التي تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف أوروبا، من بين المرشحين للإجابة على هذه الأسئلة، وحمل مستقبل هذه القضية.