الثياب سود.. وكلّ شيء ملوّن
علي وجيه
(بلى، هيمَتْ! إنّها القريةُ التي ولدتَ فيها، تلدكَ للآن)
-أدونيس من زمن – رسالة إلى هيمت
في جبل اللويبدة، مركز التشكيل والمحترفات والمراسم في العاصمة الأردنيّة عمّان، يستقرّ مرسم هيمت محمّد علي 1960، وهو مرسمٌ تعاقبَ عليه رسّامون عراقيّون عدّة منذ التسعينيات، قبل أن يتناثروا على البلدان، فيما استقرّ فيه هيمت منذ سنوات، مشغلاً ومسكناً، أثناء تجواله ومستقرّه بين باريس وعمّان، متفرّغاً للفن والرسم.
وما بين “مونبارناس” في باريس، ومشغل اللويبدة، ثمّة حياة عجيبة لهيمت، منذ لحظة ولادته حيث حرج الهويّة يلازم حضوره، فهو الكاكائيّ الكركوكليّ الكرديّ الذي تتنازعه هويات عدّة، وعلى الرغم من وجوده في بغداد، رسّاماً بخصوصيّة عالية، إلّا أن ذلك لم ينجح بعدم فرزه، فظلّ خاضعاً للتأويلات والتحقيبات التي عادةً ما يرميها النقّاد التشكيليون ومَن لهم علاقة بالأمر على الفنان.
هيمت، المنحدر من سلالة صوفيّة، وجد ضالّته بالتشكيليّ والمنظّر والمؤرخ الفنّي شاكر حسن آل سعيد (1925 – 2004)، تحاور الفنّانان كثيراً، وترك كلٌّ منهما بصمته على الآخر، كأتمّ ما يكون من علاقةٍ بين الشيخ والمُريد، حتى قال هيمت، في دفترٍ استعاديّ تحيّة لآل سعيد “في لقاءاتنا كنتَ تحدثني عن السُّهروردي القتيل وعبد القادر الجيلاني والحلّاج والأوفاق والبعد الواحد، كنتُ لا أفهمُ كلّ ما تقول إلّا بعد أن يمرّ وقت طويل، وكنتَ تحدثني عن ماتيس وميرو، وكنتُ أشعر أحياناً بأنكَ تريد أن تصنع منهم مزيجاً منسجماً”.
هذا الدفتر، يكشفُ عن عتبة أساسيَّة، ربّما تصلحُ لفهم تجربة هيمت، إذ يقتبسُ من آل سعيد جملة حملها كتابه (الحريّة في الفن)، فيقول الأستاذ آل سعيد “.. فاستقصاؤنا لِما وراء الرؤيا في الفن ينتهي بنا الى الفن الحقيقيّ، وهو فنّ اللا شيء”.
وبطريقةٍ ما، ظلّت تجربة هيمت تتقاطع بين سياقين: اللون، واللا شيء، أو “اللا مرئيّ” بتعبير فاروق يوسف، بكتابه الشهير عن آل سعيد، وهيمت، ثمّة ما يقولُ في اللوحة، من دون أن تجده، وعلى الرغم من الألوان المبهجة، المبهرجة، العديدة، التي لا يجرؤ عادةً فنانون كثيرون على جعلها متنا أساسياً في بدن اللوحة أو العمل، لكن هيمت يجعلها، قال لي “كنتُ أرسمُ بتأثيرٍ من الحرب كثيراً من السوادات والأصدقاء القتلى، ثمّ انتفضتُ على ذلك السواد، وآليتُ أن أرسم بالألوان، المبهجة”.
القاعة الكبرى التي يرسم بها هيمت، يعتمدُ فيها كلّياً على ضوء الشمس الداخل من الشبابيك لينير مساحتها الكبيرة، وثمّة مئات من قناني الأكريليك والأحبار، ومئات من الفراشي متعدّدة الأحجام، أغلبها كان غريباً، هو يصنّعُ ألوانه ويمزجها، لونه ليس محايداً، وبطبقة واحدة، ثمّة شوائب يعكف على إضافتها ومزجها، لتجد طريقها إلى تجربته، تلك المليئة بالآبستراكت واللاند سكايب، من دون عناصر مرئية واضحة، ربّما أستثني الحروفيات ببعض الدفاتر الفنّية، والزهور.
يمثّل هيمت خلطة عملاقة من الأمكنة والأصوات والألوان، وراء وجهه الهادئ بشاربيه الكثيفين، وملابسه السوداء على الدوام، فهو يرتدي عادةً ثلاثة قطع جميعها سود، مع سوار من الخرز الخشبيّ أسود أيضاً، وكأنّه تعويض على المبالغة باللون، وخلطاته وتجريباته التقنية على سطح اللوحة، وكلّ شيء قابل لأن يكون عملاً فنياً، لكن الشعر والطبيعة يمثّلان رافدين أساسيين في تجربته، وتجربته تحتوي على عشرات الكتب الفنية، عدد كبير منها كان اشتغالاً على قصائد لأدونيس وسعدي يوسف، قاسم حدّاد وعبد المنعم رمضان، وغيرهم من شعراء يابانيين حيث استقرَّ لفترة من السنوات، وفرنسيين حيث يستقرُّ الآن.
كعادة التشكيليين، لا تعرفُ أين ينتهي المرسم وأين يبدأ البيت، في غرفة نومه نحو 100 عمل فنّي من مقتنياته التي تبدأ بفائق حسن مروراً بآل سعيد ومحمّد مهر الدين ولا تنتهي بهاشم البغدادي وليزا الترك، وفي غرفة الجلوس يحيطك ضعف هذا العدد، مع مكتبة يطلّ من بينها بشكلٍ واضح فيلسوف إشكالي انتهت حياته بشكل تراجيدي: السهروردي المقتول، وعدد كبير من مؤلفات متشتت الهويّة، المتوحد المتناثر: فيرناندو بيسوا.
تجربة هيمت تمثّل أن تقول كلّ شيء من دون الإمساك بشيء، أن تكون في كركوك وترسم في عمّان، وأن يكون للوردة وجه الضحيّة، وللموسيقى اليابانيّة دبكة كرديّة على أرض فرنسيّة!.
من صحيفة الصباح