الكاتب والصحفي .. عبد المنعم الأعسم
بعد اسابيع من صمت المدافع ضد مؤامرة عالمية، تستهدف قيادات وبيوت سياسية وزعامات محلية، وعودة مياه التفاوض والغزل مع جهات محلية ودولية اصابتها تلك المدافع، عاد الضجيج مرة أخرى مترافقاً مع الجدل حول فضيحة التسريبات، حتى ليتساءل المراقب، وفي الذاكرة سنوات طويلة من الحديث عن المؤامرة، وآخرها بعد اعلان نتائج انتخابات 2021: من يتآمر على من؟ ولماذا؟
والحق ان ملف شكاوى الفئات السياسية العراقية من التآمر واسع ومعقد وزاخر بالطعون والمخاوف والتعبئة، عدا عن انه موصول بدور ومصالح الدول المجاورة والدولية، وقد شملت الشكاوى من وجود مؤامرة طائفة واسعة من العناوين ومن بينها (انتباه) قناة تلفزيونية ترفيهية لا طعم لها.
وباستثناء ذلك، فان المؤامرة وسيلة قديمة لكسر شوكة الخصوم منذ تكون المجتمعات، وثمة في عمق الموروثات والأخيلة والروايات التاريخية والدينية اشارات وفيرة الى “المؤامرة”: قابيل تآمر لقتل اخيه هابيل. يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير صرخ وهو يحتضر: حتى انت يابروتس، وهي شكوى تُردد من تآمر الاقربين، فيما تطورت ادوات تنفيذ المؤامرة من حجر قابيل الى خنجر بروتس، عبر الحربة والسيف والسهم واصابع اليدين والنار والحبال والسكين، ومن التآمر بالسم الى احدث تقنيات القتل والاغتيال واحتلال الدول وفرض الاقدار الغاشمة.
المؤامرة في الاصطلاح المدرسي هي “مكيدة” وتأتى بمعنى التشاور و”الامارة” وأمرَ محمد فلانا بمعني كلّفه بشيء، والقول (القاموسي) انهم تآمروا، يعني انهم تشاوروا حول أحدهم، اي اتفقوا على ايذائه، وفعل الايذاء يعطي للتشاور صفة التآمر، مسبوقة بايحاءات مطَمْئنة للضحية (شخصا أو جماعة) تؤدي به الى الغفلة، وكلما كان الضحية قليل التحسب والحذر واليقظة كان اسهل للوقوع في شباك المؤامرة.
اما نظرية المؤامرة فهو اصطلاح حديث في علوم السياسة، وقد دخل في الاستخدام منذ العقد الثالث من القرن الماضي على هامش الانشقاق في النظام الدولي بتأسيس الاتحاد السوفييتي، وانتشار اعمال الاغتيال السياسي وتراجع الفكر الموضوعي والتحليلي المستقل، وقد اصبح هذا المصطلح معبرا لتفسير الاحداث مع صعود الحرب الباردة، وخصّه “قاموس اوكسفورد” بسطور ضافية فصاغه بالكثير من الحذر بوصفه “محاولة لشرح السبب النهائي لحدث او سلسلة من الاحداث السياسية والاجتماعية او التاريخية على انها اسرار” وغالبا ما يحال الحدث الى عصبة متآمرة.
الى ذلك، قدمت نظرية المؤامرة (كل حدث وراءه مؤامرة) خدمات جليلة للذين اختلطت عليهم الامور وصعُب عليهم البحث الصبور الواعي والموضوعي في خلفيات الاحداث، أو الذين ولعوا في توليف الروايات وجمع النتف العابرة من الحقائق لتقديمها كحقائق خافية، كما ساعدت المسؤولين عن الاخفاقات والفشل والنكسات على رفع اللوم عن النفس وإبراء الذمة عنها وإلقاء المسؤولية عن ذلك على متآمرين مفترضين، وفي النتيجة تحولت “نظرية المؤامرة” من رؤيا سياسية لتفسير الاحداث الى عقار للتعايش مع العجز، باعتبار ان المؤامرة اكبر من قدرات ضحيتها.
كل هذا مفهوم، لكن غير المفهوم هو ان صنيعة مؤامرة، والذي كسب مجده وفرصته من المؤامرة صار، يشكو من التآمر عليه.
نقلا عن المدى