(فرست عبدالرحمن مصطفى)
كان صباح الحادي والثلاثين من آب عام 1996 يوماً ثقيلاً على أربيل، يوماً بدا كأنه كُتب بمداد من دم ومرارة، وكأن الأرض نفسها ارتجفت تحت وقع الخطوة المزدوجة “دبابات البعث القادمة من بغداد، وخناجر القريب الذي نادى بها ليغرسها في خاصرة مدينته”.

أربيل لم تكن مجرد مدينة في ذلك اليوم، كانت شاهدة على مأساة تتجاوز جغرافيا المكان. في شوارعها انكشفت هشاشة الحلم الكردي الذي كان يتنفس ببطء بعد سنوات من القمع والأنفال والكيميائي، فإذا به يجد نفسه عارياً أمام لحظة غدر مزدوج “غدر السلطة المركزية التي لم تنسَ ثأرها، وغدر الأخ الذي استدعى تلك السلطة بدم بارد كي يحسم صراعاً داخلياً”.
دخلت دبابات صدام حسين المدينة بخطوطها الثقيلة كأنها قادمة من زمن الحروب الكبرى، تحمل معها رائحة الجنوب الممزوجة بوقود الحرب والكراهية. لم يكن الأمر تحريراً، ولا نصراً، بل كان اجتياحاً صريحاً لبؤرة أمل صغيرة حاولت أن تقف على قدميها. وما كان لخطواتها أن تبلغ أربيل لولا أن أبوابها فُتحت من الداخل، باسم الحليف الذي ارتضى الاستقواء بالغريب على القريب.
في الأزقة، كان الناس يركضون مذعورين، يحملون ما استطاعوا من حياة، طفلاً على الأكتاف، أو صورة قديمة، أو كيس خبز. والسماء الملبدة بالغبار لم تكن سوى غطاء لمأساة تراجيدية جديدة تضاف إلى سلسلة طويلة من الوجع الكردي. أصوات الرصاص اختلطت مع أصوات الصراخ، وصار التمييز بين رصاص الغريب وخناجر القريب أمراً مستحيلاً، فكلاهما انغرس في الجسد نفسه.
التاريخ في ذلك اليوم بدا وكأنه يتعرى، البعث الذي لم ينسَ أنه السيد المطلق، جاء ليذكّر أربيل أن الخلاص لا يزال بعيداً، وأن دماء الأنفال وحلبجة لم تُكفِ بعد. والحزب الكردي الذي نادى بهم، ظن أن النصر السياسي يمكن أن يُشترى ولو بثمن الكرامة، غافلاً أن كل سلطة على جثة الأخ تتحول إلى لعنة.
كان المشهد أشبه بمسرح تراجيدي كلاسيكي:-
– المدينة هي البطل النبيل الذي يُخدع ويُغدر به.
– القريب الذي يتحالف مع القاتل هو الخائن الذي يبيع نصراً وقتياً بثمن التاريخ كله.
– والبعث هو الشبح الذي يعود دائماً ليذكّر الجميع بظل الموت الذي لا يزول.
أربيل في ذلك اليوم لم تكن مجرد ضحية حرب، كانت جرحاً مفتوحاً في جسد كردستان، جرحاً صنعته دبابات الغريب وخناجر القريب معاً. بقيت الشوارع تحمل آثار الدم، وبقيت الذاكرة مثقلة بمرارة السؤال هل هناك مأساة أعمق من أن تستنجد بالأمس الذي قتلك ليقتل أخاك اليوم؟
لقد خرج الغريب في النهاية، لكن أثره لم يخرج. وبقي القريب، لكن صورته لم تعد كما كانت. ومنذ ذلك اليوم، ظلّ 31 آب علامة فارقة في الذاكرة الكردية و علامة تقول إن الخيانة الداخلية أشد فتكاً من كل جيوش الأرض، وإن الطعن من يد القريب يترك ندبة لا تشفى.
في الحادي والثلاثين من آب، ماتت براءة أربيل، وتحوّلت المدينة إلى مرآة تعكس قسوة السياسة حين تُدار بلا أخلاق، وحين يختلط حلم التحرر بشهوة السلطة. كان ذلك اليوم شاهداً على أن الوطن يمكن أن يُباع مرتين في اللحظة نفسها “مرة على مذبح الدبابة، ومرة على نصل الخنجر”.

