إرهاب السّلطة: ضغائن وإبادات
(سردية عن اللحظة الراهنة)
خالد حسين
لنـأخذ هذا السُّؤال الذي من شأنه ألا يُسأل:
هل ما يحدث في سوريا الآن، إثر هزيمة الدكتاتور واستيلاء جماعة سلفية معروفة بتاريخها الدموي على السلطة، ضربٌ من التوقع الفعلي، مجازر، إبادات، حرق، سبي، تهديدات، تحطيم لأي وئام اجتماعي؟
ما لا يُتوقّع هو: ألّا يحدث هذا الأمر ذاته!
هكذا؛ فحدوث هذه الإبادات في السّاحل والسُّويداء، والجغرافيا السُّورية مفتوحةٌ على المرتقب منها، أمر بديهي في منطق الجماعة المتسلطة حالياً، بل في منطق الإسلام الراديكالي مشمولاً بالطبع جماعة الأخوان، المعطف القذر لكلّ الوخم السّلفي الذي بات يغطّي المجتمعات السنية، فالنخبة السنية السياسية بكتلتها الراديكالية، وهي الأوسع، في هذه المجتمعات مُصرّة على العيش في الحاضر بتفكير بالٍ يتخذ من “وصايا الغبار” مبنىً للحجاج، ولذلك ليس من الغرابة بمكانٍ الاندفاع الغرائزي للانضمام لما سمّي بـ”المقاومة العراقية” يوماً من مختلف الفضاءات السنية السّورية في إخفاقٍ فاشلٍ لاسترجاع نظام الطاغية صدام حسين.
وفي هذا الصّدد لم يكن مشكلُ النخبة السياسية السنية مع نظام البعث نفسه في سوريا وإنما مع الهوية المذهبية للطاغية ذاتها، أي مع “الحاكم العلوي” أباً وابناً! ومن هنا تحديداً؛ ينبغي تفسير ما جرى في سوريا في 2011 وتأويله استناداً إلى حقيقة مفادها أنّ النخبة السنية (أو السنية السياسية بتوسيع مفهوم صادق جلال العظم) لم يكن يشغلها تأسيس أي أفقٍ ديمقراطي في “المضيق الأبدي” لدكتاتورية الأسدين سوى أمر واحد وهو إيصالُ حاكمٍ سنيٍّ إلى الحكم بأيّ ثمنٍ في إغفالٍ متعمدٍ لأيّ مشروع وطني ــ ديمقراطي ــ علماني وإنما بطرح “الإسلام”، وتحديداً التأويل السّني الراديكالي في صورته الأكثر وخامةً، لمستقبل سوريا.
لاريبَ أنَّ الثمنَ كان باهظاً لهيكلةِ مشروع “الحاكم السّني” بشراً ومجتمعاً وبنيةً، إذ في مقابل استغاثة الدكتاتور الأهوج بقوى خارجية، دولية وإقليمية وطائفية، لم تتوانَ السنية السياسية عن استقدام مختلف الإرهابيين من الفئات الإسلامية الراديكالية جماعاتٍ وفرادى إلى الأرض السُّورية مع الارتهان الكامل لتركيا ـ أردوغان؛ ليشترك الطرفان في تدمير سوريا وفتح أبوابها على جحيم حرب أهلية لم تضع أوزارها حتى اللحظة الراهنة مع تشييد فجوات وتصدعات طائفية وكراهية وإثنية مريعة وعميقة في النسيج الشعبي لاتزال آخذة بالتوسع والامتداد.
ورغم التكلفة البشرية لم ينجح “الإسلام السّني” بمختلف توجهاته وأطيافه في مشروعه آنفاً الذكر نتيجة التوازنات الدولية والإقليمية. غير أنّ “اتفاقاً” في دوائر “الدولة العميقة” دولياً وإقليمياً، وبعد أن بلغ نظام الطّاغية ــ الابن حدَّ الرثاثة، قد أُبرمَ على نحو مباغتٍ بإحالة الدكتاتور إلى التقاعد والدفع بجماعةٍ راديكاليةٍ منظّمةٍ ومسلّحةٍ ذات تاريخ غارق في الإرهاب باسم “هيئة تحرير الشام” للاستيلاء على الحكم في العاصمة بدمشق في هجومٍ مختلقٍ ومضحكٍ ومتفق عليه مقدّماً.
على هذا النَّحو تحقّق الحلمُ السّني بحكم سوريا تحت إمرة الجولاني (أو أحمد الشرع لاحقاً) المعروف بتاريخه الراديكالي والدموي قاعدياً وداعشياً وكذلك المعروف بممارسته لخطاب مطعون بتناقضاتٍ فجة من لقاءٍ لآخر. وهنا ينهضُ سؤالٌ مفاده ما الذي جعل النسيج السّني الشّاسع مساحةً وبشراً تلتفّ حول [حاكم جديد يستند إلى إرث ديني في السلطة يبغض حتى كلمة الديمقراطية نطقاً، وهو بذلك لا يختلف عن المنوال الأفغاني مطلقاً، بل نسخة سيمولاكر بشعة عنه]؛ وذلك في تهافتٍ غريبٍ حتى من لدن النخب الثقافية السنية في تأييد إرهاب السلطة؛ وهنا أفتح قوسين لأقول: [ماذا يعني أنْ يقف كاتب (روائي أو صحفي أو حتّى مفكر) سوري مع سلطة الإرهاب الحالية أو ينافح عنها أو يصمت عن جرائمها المرتكبة في مدن الساحل وقراه والإبادة في محافظة السويداء أو يسوّفها مع العلم أن هذا الكاتب (بأصنافه المذكورة) كان يقف موقف المندّد تجاه جرائم النظام السابق بحق المشاركين السنة في حراك 2011، ماذا يعني أن يندّد سابقاً بجرائم السلطة السابقة ثم يدافع عن السلطة الحالية في فظائعها الشنيعة؟! نعم …إنها ماهية الكاتب الطائفي، الكاتب السيّال…!].
بهذه الصُّورة باتت الأكثرية السنية (ولاسيما الريفية منها) المنبع الأول والأخير لموارد قوة الحكم والدفاع عنه والإشهار له داخل سوريا وخارجها؟ وبطبيعة الحال؛ فإنّ الواقع الفعلي لا يرسّخ تماماً من خاصية “الإطلاق” في هذا الالتفاف السني حول الحكم؛ فالاختلاف كائنٌ في هذا النسيج؛ ولكنه يفتقد إلى الامتداد الواسع الفّعال رغم علمانيته ومصداقيته وعمقه (الخطاب الديمقراطي والعقلاني لخطيب بدلة مثلاً)، بمواجهة خطابٍ سنيٍّ متشدّد، مريع، سلفي، متعدد المصادر والوسائط وعلى درجة مخيفة من التطييف وبثّ الكراهية تجاه المكوّنات السُّورية الأخرى من كرد وعلويين ودروز، بل حتى تجاه السنة المعتدلين أو ما يُعرفون بمصطلح “السنة الكيوت”.
لنكرر السُّؤال مرة أخرى بعد هذا الاستطراد القصير، الذي لم يكن منه بدٌّ: لماذا انحاز العرب السنة إلى سلطة الجولاني، ولماذا هذه الاستماتة غير المبرّرة في الذود عن ترسيمته التي لا تتجاوز قوام إمارة مماثلة لإمارة طالبان؟
منذ اغتصاب البعث للحكم في سوريا في النصف الثاني من القرن الماضي تشكّل التصور الذهني لدى العرب السنة متأرجحاً تحت تأثير الخطاب الأيديولوجي القوموي البعثي من جهة وخطاب جماعة الإخوان الأعمق تأثيراً والأقوى من جهة أخرى مع وجود تناقضات سطحية بسب وجود حاكم علوي في قمة السلطة. غير أن هذا التصور الذهني إثر أحداث حماه وجد تناغماً في ذاته بين صيغتي (الفكر الإخواني والبعثي الصدامي) وهو ما اتضح للملاحظ إثر انهيار دولة صدام حسين من جهة وحراك 2011 من جهة أخرى، حيث انتقل البعثيون إلى تبني الخطاب الإخواني في طروحاتهم وتفاعل هذا الخطاب بسرعةٍ فائقة مع أفكار قادمة من القاعدة وداعش والنصرة والجماعات الإسلامية الراديكالية الأخرى في سوريا بهذا الشكل أو ذاك رغم التعارضات الشكلية. وفي رأيي المتواضع؛ فهذا التصوّر الذهني أو الخطاب الديني السني ــ القوموي [الاستثناءات قائمة باستمرار مع التثمين] هو الذي سهّل اصطفاف العرب السنة بيسرٍ إلى جانب الحكم الجديد، ليفوزوا، من ثمّ، بتسمية “طائفة النظام” اقتداراً! لتتحوّل الأكثرية، أقله على مستوى الممارسات الخطابية، إلى أداةٍ قمعيةٍ من أدوات السُّلطة الراهنة، الأمر الذي سهّل أن تميطَ هذه السلطة اللثام سريعاً عن الوجه النازي لها وسط تأييد كاسح من النّسيج السّني في مساحاتٍ كبيرة منه؛ لتمضي صوب مشروعها الأكثر وضوحاً لاجتثاث “المختلف” مذهبياً وإثنياً، لتشكيل سوريا ذات اللون الواحد والمذهب الواحد والحقيقة الواحدة واللسان الواحد. لم يكن ما حدث في 2011 من (ثورة) في أصلها وفصلها أكثر من خديعة، لم تكن من أجل مستقبل بهي لسوريا، لم تكن من أجل العدالة وحرية الرأي، أو إزالة دكتاتورية البعث العفن. يمكن تكثيفها في معادلة مثيرة للاشمئزاز بالنظر إلى غايتها: استبدال حاكم سني مجرم وإرهابي بحاكم علوي مجرم فحسب!
في هذا السياق المستعر بالفكر الفاشي، الذي لا يتوقّف عن البثّ من أعلام سلطة الإرهاب وصناعة الكذب والحقد ضد الآخر، حدثت إبادةٌ، [وحدث سبيٌ، لايزال يتواصل باسم (الاختطاف)]، بحقّ العلويين ثم أعقب ذلك كوارث الحرق المفتعل للغابات، جرت الجرائم، وذلك بعد أن انطلت على الفئات المسلحة من العلويين فكرة “الأمان” لقاءَ “تسليم الأسلحة” في سذاجةٍ واضحة تعبّر عن غياب التجربة السياسية المستقلة (أو الفاعلين السياسيين) في منطقة السّاحل السّوري للتفاوض على السلاح استناداً إلى طرف محايد. وفي واقع الحال تُرك العلويون لقدرهم بعد فرار النظام الإجرامي، الذي يتحمّل المسؤولية الكاملة، ليس عن الجرائم الشنيعة التي ألحقها بسوريا فحسب، وإنّما حين منع العلويين ذاتهم من ممارسة أي تجربة سياسية مستقلة عنه، كان من شأنها أن تمنع ما جرى ويجري من نكبات في السّاحل، والسُّؤال هل سيتمكن السّاحل من لملمة شؤونه ومواجهة النازية الدينية التي حوّلت فضاءاته إلى سجن وحواجز وحصار الناس في منازلهم؟
وانعطافاً على ما سبق، ولما تزل نكبة العلويين جارية، حيث نشوة “الانتصار” على المدنيين العلويين، قادت عناصر السُّلطة من “الأمن العام” مع قوات رديفة وبداة وعشائر هجوماً همجياً على محافظة السُّويداء في إبادة مماثلة لإبادة السّاحل، بل وأكثر شناعةً في الإجرام بحقّ الدروز من قتلٍ وحرقٍ وخطفٍ رغم المقاومة المذهلة التي أبداها الدروز، وذلك في سياق صمتٍ عربي مشينٍ ومغمّسٍ بالعار، الأمر الذي أجبر إسرائيل (الدولة المعادية!) على التدخل لإنقاذ الدروز من إبادة حقيقية، تحت ضغوط اللوبي الدرزي في إسرائيل. ومهما يكن فقد انهزمت النازية الدينية وانتصرت السُّويداء.
لا شكّ أنّ هذه السُّلطة الدينية بممارساتها النازية والعنصرية (أو فئات منها) ترسمُ لمجازفةٍ جديدةٍ “ربما” صوب شرق الفرات، وتَعِدُّ العُدّة عسكرياً لذلك عن طريق إثارة غرائز الشّر لدى بعض العشائر وبث مقدار هائل من خطاب الكراهية الذي لا يتوقف، فهي تتبنّى سردية عدائية واضحة تجاه قوات قسد [قوات سوريا الديمقراطية] بشكلٍ خاصٍّ، وتجاه الكرد بشكلٍ عامٍّ، بدعم من تركيا. وفي هذا الصّدد؛ فعلاوة على أنّ قوات قسد تمتاز بتنوعها وتنظيمها وتسليحها وتدريبها الجيد وقادرة على المواجهة وفق المعلومات الدقيقة؛ فإنّ أيّ هجوم على “شرق الفرات” منوط بالموافقة الأمريكية ولا أعتقد أنه من السهولة بمكان أنْ تسمح أمريكا لذلك؛ لاسيما بعد الانعطافات الأخيرة وإثر نكبتي السّاحل والسُّويداء وفي ظلّ تزايد نشاط جماعات داعش التي باتت أعلامها ترفرف في أنحاء سوريا في صمتٍ كاملٍ من جانب سلطة الجولاني، وكذلك لتنبُّه بعض السياسيين الأمريكان إلى الخطاب العشوائي للمندوب الأمريكي وخطورته، ربما هذه العوامل الأخيرة مجتمعةً ستحدّد حجم مجازفة السلطة وحدودها.
في نهاية المطاف، حتّى اللحظة، يمكن إقرار التالي:
لايزال النظام الديمقراطي (على أرضية علمانية) هو المشروع الأكثر واقعيةً، وكان الأكثر توقّعاً، لسوريا بعد كل هذه المآسي المؤلمة، لكن لا يمكن لهذا النظام أن يصبح واقعاً في ظلّ الإسلام السياسي بوجهه الإرهابي القبيح في قمة السلطة الآن…

