(فرست عبدالرحمن مصطفى)
بعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى وانكسرت الإمبراطورية العثمانية، انفتح الشرق الأوسط على صفحة جديدة من التاريخ، صفحة كتبتها القوى الاستعمارية بخطوط الانتداب وتحديد الحدود. في قلب هذا المشهد، كان الأردن والعراق على مفترق طرق متشابه، لكن مسارهما بعد ذلك اختلف اختلافا جوهريا، بفضل اختلاف طريقة الاستفادة من تجربة الانتداب وبناء مؤسسات الدولة والجيل السياسي.
الأردن، الذي ظل تحت الانتداب البريطاني لحوالي خمسة وعشرين عاما، عاش تلك الفترة كمعمل لإعداد الدولة الحديثة. لم يكن الانتداب مجرد سلطة خارجية تفرض سيطرتها، بل كان فرصة لتشكيل مؤسسات إدارية وعسكرية، وتدريب كوادر محلية، وغرس مفاهيم الولاء والانتماء للنظام الهاشمي. هنا تكمن عبقرية هذه التجربة، منح الأردنيين مساحة للتعلم والممارسة، دون أن يفقدوا هويتهم أو إرادتهم. وبذلك، عند رحيل الانتداب، وجد الأردن نفسه مزودا بجيل سياسي وإداري قادر على إدارة الدولة بوعي واستقرار، مؤسسات متماسكة رغم حداثتها، ومجتمع يعرف قيمة التوازن بين الولاء المحلي والخبرة المكتسبة من الخارج.
على النقيض، كان الطريق العراقي أكثر وعورة. حصل العراق على استقلاله عام 1932 بعد فترة انتداب أقصر، لكنه ورث دولة هشة، مثقلة بالانقسامات السياسية والطائفية والعشائرية. رغم وجود بعض الكوادر المدربة، إلا أن غياب التوافق الداخلي وصراعات النفوذ وضعف المؤسسات منع بناء جيل سياسي متماسك. وكان الصدام مع القوى الأجنبية متكرراً، إذ حاولت الحكومة العراقية فرض سيادة كاملة بينما بقيت الضغوط البريطانية تلوح في الأفق، ما أدى إلى سلسلة من الانقلابات وأزمات الاستقرار السياسي.
العبرة من مقارنة هاتين التجربتين واضحة، ليست مدة الانتداب وحدها كافية، بل طريقة إدارة تلك الفترة، وإشراك المجتمع المحلي، واستغلالها لبناء مؤسسات قوية، كلها عوامل حاسمة. الأردن نجح في تحويل الانتداب إلى حاضنة للتعلم والبناء، فخرج جيله السياسي متسلحاً بالخبرة والمعرفة، بينما العراق، رغم الاستقلال المبكر، واجه صعوبات مزمنة في تأسيس دولة متينة وجيل قادر على استيعاب تحديات الحكم.
هكذا، يبقى الأردن مثالاً على القدرة على استثمار تجربة خارجية لصالح الداخل، وعلى أن الدولة الناشئة تحتاج إلى توازن دقيق بين التعلم من الخارج والحفاظ على الهوية المحلية، بينما يظل العراق درساً في المخاطر التي تترتب على الاستقلال المبكر دون مؤسسات قوية وجيل سياسي مؤهل.

