محمد طهمازي
مما لاشك فيه أن النصب والتماثيل التي تقام في الساحات العامة هي أكثر من مجرد قطع فنية؛ فهي رموز حيّة تجسد التاريخ والقيم الجماعية والهوية الثقافية لأمة أو مدينة. لا يقتصر اختيار هذه الشواهد وتصميمها وانتقاء مواقعها على الاعتبارات الجمالية فحسب، بل إن الأمر يخضع لعملية معقدة ودراسات متعددة التخصصات تشمل التخطيط الحضري، علم الاجتماع، التاريخ، وعلم النفس البيئي. يعتمد اختيار وتصميم النصب على عدة معايير أساسية أولها السياق والرمزية حيث تدرس الرسالة والهدف، أي أن يجيب التصميم على سؤال: “لماذا يُنشأ هذا النصب؟” سواء كان لإحياء ذكرى حدث تاريخي، تكريم شخصية، أو التعبير عن فكرة مجردة كالحرية أو السلام. يجب أن تكون الرمزية واضحة ومقروءة من قبل الجمهور المستهدف، مع تجنب الغموض الذي قد يؤدي إلى تفسير غير دقيق.يجب أن يكون تصميم العمل مقياسيا قابلاً للتصغير أو التكبير مع الحفاظ على تأثيره البصري، على سبيل المثال، يتطلب التمثال الصغير في حديقة ما تفاصيل دقيقة ليجذب المشاهد من مسافة قريبة، بينما يعتمد النصب الضخم في ساحة مفتوحة على هيئته العامة وصرامته. ينبغي الاهتمام بجانب المتانة والاستدامة باختيار المواد القادرة على تحمل عوامل الطقس والتلوث والتآكل لضمان بقاء العمل لعقود أو قرون. يعتبر البرونز والجرانيت والرخام من الخامات التقليدية المفضلة لقدرتها على الصمود. تشير الدراسات إلى أن المواد عالية الجودة تعطي شعورًا بالديمومة والأهمية لدى جمهور المتلقين، وهنا من الجدير ذكر الدلالة الرمزية الخاصة بالمواد المستخدمة في صناعة التماثيل والنصب فالبرونز يرتبط بالتقاليد والوقار، بينما قد يختار فنان ما مواد حديثة مثل الفولاذ المقاوم للصدأ أو الزجاج للتعبير عن الحداثة والشفافية.
من الضروري أن يكون حجم النصب متناسبًا مع المساحة المحيطة به، فالتمثال الضخم حين يوضع في ساحة صغيرة سيشعرك بالضغط والتضخم، بينما التمثال الصغير حين يوضع في ساحة شاسعة سيبدو تافهاً ومهملاً وقد لا يفطن أحد لوجوده أصلاً. إن المقياس الصحيح يخلق توازنًا بصريًا ويحترم المنتج الابداعي الإنساني ومخرجات معماره في الفضاء.إن التفاعل البشري مع التماثيل بالخصوص أمر مهم لذلك تفضل العديد من التصاميم الحديثة أن تكون في “المقياس البشري الطبيعي” مما يشجع الناس على الاقتراب، واللمس، والتفاعل الجسدي مع العمل الفني، بدلاً من أن يكون عملًا متعاليًا يُشاهد من بعيد فقط.يعدّ موقع النصب عنصرًا حاسمًا في نجاحه وفعاليته التواصلية، وغالبًا ما يكون أكثر أهمية من التصميم نفسه. يخضع اختيار الموقع لعامل المركزية والرؤية من حيث النقاط المحورية عبر اختيار المواقع المتحكمة مثل الساحات الرئيسية، تقاطعات الطرق المهمة، أو أمام المباني العامة (كالمحاكم أو المكتبات العامة أو الجامعات) لضمان أقصى قدر من الرؤية والوصول. هذه المواقع تعزز مكانة النصب كمعلم رئيسي في نسيج المدينة.
تعد مراعاة السياق الحضري والبيئي من الأمور الواجبة لتحقيق التكامل مع العمارة المحيطة، فالنصب يجب أن ينشئ حوارا مع مبانيه المحيطة، فيكون إما عنصرا مكملا للطراز المعماري أو عنصرا يخلق تباينا مقصودا لإثارة التفكير، مع وجوب أن يحترم التصميم التخطيط العمراني والكتلة الحضرية للموقع. كثيرًا ما تُستخدم البيئة الطبيعية لمنح معنى إضافي، حيث يمكن أن تعزز الأشجار الوقار، أو تعكس المسطحات المائية الهدوء والتأمل، كما في نصب لينكولن التذكاري في واشنطن العاصمة، حيث ينعكس المعمار النحتي في البركة المائية، مضاعفًا من تأثيره المهيب.إن على العمل النحتي أن يربط المكان بالذاكرة فيكون الموقع الأمثل للنصب هو المكان الذي وقع فيه الحدث التاريخي نفسه أو له صلة وثيقة بالشخص أو الفكرة التي يتم تكريمها أو تخليدها وهو ما يصطلح عليه بالتوطين الذي يضفي شرعية تاريخية وقوة عاطفية على النصب، فيصبح المكان نفسه جزءًا من القصة. نصب فيتنام للمحاربين القدامى في واشنطن العاصمة، على سبيل المثال، يقع بالقرب من نصب لنكولن، مما يخلق حوارًا بصريًا وتاريخيًا حول موضوع التضحية الوطنية.من مقومات مكان النصب أن يكون سهل الوصول بواسطة وسائل النقل العام، ومصممًا لاستيعاب الأشخاص ذوي الإعاقات. يجب أن تشجع المساحة على التجمع والتفاعل الاجتماعي، وليس فقط المشاهدة السلبية، وأن تتوفر مساحات للجلوس والتأمل في الظل أو تحت الشمس، مما يشجع الناس على قضاء وقت أطول والانخراط بشكل أعمق مع العمل الفني.هناك قضية أساسية لازمة قبل اتخاذ قرار إقامة نصب ما وهي عدم وجود نزاع في أحقية الجهة المختصة في عمل النصب ومن يقرر من أو ما الذي يستحق التكريم. هذه أسئلة سياسية عميقة تعكس صراعات على السلطة والهوية داخل المجتمع.تخضع النصب أحيانا للمتغيرات التاريخية فقد تصبح الرموز التي كانت مقبولة في الماضي مثيرة للجدل لاحقًا، مثل تماثيل شخصيات مرتبطة بالاستعمار أو العبودية أو الأنظمة الديكتاتورية. هذا يثير نقاشًا مستمرًا حول ما إذا كان يجب إزالتها، أو إضافة سياق تفسيري لها، أو موازنتها بنصب جديدة تعبر عن سرديات متعددة.
المصدر .. صحيفة الصباح