علي لفتة سعيد
لا يبدو النقد في حالة عزلة، أو أنه منهج فوقي، بل هو استمرار وديمومة لسيرورة إنتاجية قد بدأ ملحقا، ثم تحول إلى أدب جنس مستقل، وإن اعتمد على نصوصٍ أدبية، حتى إنه تشعب من الأدب إلى الفنون الأخرى.
إلا أن هذه الخصوصية يراد لها أن تكون جامدة، أو أنها لا تتحرك حتى يتمّ تغذيتها أو تغييرها من جهاتٍ عليا هي صاحبة التخصص المصطلحي، لتبقى بعض الكتابات النقدية حبيسة مناهج البحث الأكاديمي الصارمة، وإنها ظلت حبيسة قاعات الجامعات ونقاشات الرسائل العلمية.
وهو أمر لا بدّ من وجوده، لكن يجب التفريق بين الحقل الجامعي المنهجي والحقل النقدي الأدبي الذي يتمّ نشره في الصحف أو حتى الكتب النقدية المتخصّصة.
فالدرس الجامعي درسٌ تعليمي مهما كان مستواه أو غاياته، لأنّه يطرح منهجيته على طلبةٍ يراد لهم أن يكونوا على علمٍ بطرق النقد وإنتاجه وكيفية تدوينه. لتبقى العلاقة بين الطرفين: الأكاديمية كتدريس، والكتابة خارج المنهجية كالمقالات النقدية، أو القراءة الصحفية، أو حتى النصوص الحوارية المفتوحة، حيث يتحوّل النقد إلى استعراض مراجع أكثر منه قراءة للنصوص.
إنّ الكتابة النقدية خارج المؤسسة الأكاديمية لا يراد لها أن تكون أسيرة القالب المنهجي في إنتاج الكتب النقدية، التي تكون واحدة من علامات القبول في إنتاج الكتاب النقدي، وإلّا عُدّت غير صالحة للنشر إذا ما كان الخبير مثلًا أستاذًا أكاديميًّا، باعتبار أنّ القالب الأكاديمي قارّ ولا يمكن المساس به، ومنها ما هو متعلّق بالهوامش.
فالأستاذ الأكاديمي إذا ما استلم منصبًا خارج الدرس الأكاديمي، يفترض أن يكون حرًّا، نابعًا من وعي الناقد بالنصّ، ومن حدسه، ومن رغبته في الوصول إلى ما لا يقال عادة. لكنّه لدى بعض النقّاد يختزل في “فهرس طويل”، يغرق القارئ في إحالاتٍ واقتباساتٍ وأسماء، حتى لا يعود للنصّ المنقود حضورٌ يذكر.
إنّ قالبية الدرس لا يفترض أن تكون قالبية النشر، لأنّ النشر لا يقدّم كتابًا أكاديميًّا بقدر ما يقدّم معلومةً يشير فيها المُنتِج إلى كل المصادر، ولكن ليس بطريقة البحث الجامعي. ولهذا فإنّ التفريق بين شخصية الأكاديمي وشخصية الناقد الناشر لا بدّ أن تكون في حالة موازنة، لا اندماج، مثل مسؤول القسم الثقافي إن كان ناقدًا أو قاصًّا أو شاعرًا، فلا عليه أن ينشر فقط النصوص التي تلائم ذائقته أو طريقته الخاصة بإنتاج نصّه الأدبي. فالنصوص تتنوّع في إنتاجياتها، وبالنتيجة تتنوّع طرق الوصول إلى المعنى النقدي أو الأدبي بشكل عام.
إنّ القارئ الحديث لا يبحث عن موسوعية للمقال المنشور أو ما فيه من هوامش، بل تكون متعبة في الكثير من الأحيان حين يتمّ تعدّدها في جزءٍ من الصفحة، لأنّها أي هذه الهوامش ستقطع عليه طرق التواصل مع المقال أو المادة المكتوبة. ولا ينتظر من الناقد أن يقدّم له ملخّصًا لما كتب عن النصّ، بل أن يريه ما لم يكتب بعد. وهذا لا يتحقّق من خلال الكمّ المرجعي، بل من خلال الرؤية التي يمتلكها الناقد، والتي تشكّل بصمته الخاصة في القراءة. خاصةً وأنّ النقد المرجعي قد يفيد في البحوث، لكنّه يضعف أثر الكتابة حين تتحوّل إلى مجرّد تلخيصاتٍ طويلة لما قاله الآخرون. والأسوأ أنّ بعض النقّاد يركنون إلى هذه الطريقة باعتبارها أكثر “أمانًا” معرفيًّا، فيخشون المجازفة أو التورّط في رؤية خاصة. والنتيجة أنّ المقال يصبح ثقيلًا، خاليًا من الروح، شاحبًا كأنّه مكتوب بأدواتٍ مستعارة. وهي أكثر مقبولية وإقناعًا لمن تقدَّم له هذه الكتابات، لأنّ الذي يستلمها هو أكاديمي أيضًا يؤمن بقالبية الكتابة النقدية الإنتاجية وليست المنهجية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ لا خلاف على المنهجية في الإنتاج، بل الخلاف على عدم التفريق بين قالبي المنهج الجامعي والتدوين النقدي العام.
وأيضًا لا يعني التحرّر من ثِقَل المراجع تجاهلها كليًّا، بل يعني استعمالها بتوازن، حيث تخدم الرؤية ولا تطغى عليها. فالمراجع في النهاية أدوات، لا يمكن أن تحلّ محلّ صوت الناقد، ولا يمكن لها أن تُنتج موقفًا من النص، إلّا في حالة التدعيم وعدم استغفال من سبق أن طرح رايًا.
ولهذا ثمة صراع في قبول الكتب النقدية خارج المؤسسة الجامعية أو المنهجية، التي نجد فيها عدم قبول الخبير الأكاديمي بعدم وجود المصادر والهوامش في أسفل الصفحة، وإن تمّ ترحيلها إلى المتن التدويني، لأنّه يجد نفسه أكاديميًّا أمام بحث تخرّج أو رسالة جامعية، وينسى أنّه خبير يقيّم كتابًا لا يراد له أن يسير على المنهجية الأكاديمية. وهو الأمر الذي لا يعطي مساحةً من الحرّية التي جعلت من النقدية العربية أسيرة التدوين الغربي، أو ما نسمّيه بـعقدة الخواجة، وبالنتيجة موت الجرأة في النقد العربي الذي لا يراد له أن يعبّر عن ذاته، لا عن ذمم معرفية مستعارة. فالرؤية، لا المرجع، هي التي تخلق الفرق، وهي التي تجعل من مقالٍ نقديٍّ بسيط حدثًا فكريًّا مؤثّرًا. وهذه الحالة تساعد على إعادة القراءة للنقد الذي ظلّ أسير الهوامش التي تُتعب المتلقّي، فالنقد بحاجةٍ إلى ناقدٍ يرى، لا إلى باحثٍ يحفظ.
المصدر .. صحيفة الصباح

