الكاتب: عباس عبدالرزاق
في مشهد غير مألوف، استدعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مئات من كبار قادة الجيش الأمريكي إلى اجتماع مفاجئ عُقد في قاعدة كوانتيكو بولاية فيرجينيا. الحدث، الذي وصفته وسائل الإعلام بأنه غير اعتيادي، أثار موجة واسعة من التساؤلات: لماذا جُمعت هذه القيادات العسكرية العليا في قاعة واحدة؟ ولماذا الآن تحديداً؟
الخطاب الذي ألقاه ترامب أمام هؤلاء القادة كشف عن ملامح استراتيجية جديدة، تتجاوز مجرد التحديث العسكري التقليدي، نحو إعادة صياغة العلاقة بين الرئيس كممثل للسلطة المدنية وبين المؤسسة العسكرية، في إطار سياسي يحمل دلالات خطيرة على مستقبل التوازن بين الطرفين.
خطاب ترامب: رسائل صريحة وضمنية
كعادته، اختار ترامب لغة مباشرة وعبارات صادمة. أبرز ما قاله:
1. “نحن تحت غزو من الداخل” — وكالة أسوشيتد برس (AP) نقلت أن ترامب اعتبر أن الولايات المتحدة تواجه “تهديداً داخلياً لا يقل خطورة عن أي عدو خارجي”.
2. “نستخدم بعض المدن الخطرة كميدان تدريب لجيشنا” — بحسب AP، ألمح ترامب إلى إمكانية تحويل بعض المدن الأمريكية إلى ساحات تدريب عسكرية، وهو اقتراح غير مسبوق في الخطاب الرئاسي الأمريكي.
3. “الجيش ليس لحماية المشاعر، بل لحماية جمهوريتنا” — موقع War.gov الحكومي نقل هذه العبارة كجزء من دعوة ترامب إلى التركيز على “الجدارة والانضباط” بدلاً من ما وصفه بـ”السياسات اللينة”.
4. “معاً نوقظ الروح القتالية من جديد” — في تقرير لـواشنطن بوست، اعتبر مراقبون أن هذه العبارة تحمل دلالة على إعادة صياغة هوية الجيش في إطار “أيديولوجي” يتماشى مع رؤية الرئيس.
5. تحذير ضمني — مجلة People أشارت إلى أن ترامب قال إن من لا يوافق على رؤيته يمكنه مغادرة القاعة، “لكن بذلك يخسر رتبته ومستقبله”.
صدمة إعلامية وتساؤلات أمنية
وصفت واشنطن بوست الاجتماع بأنه “غير مألوف”، وأكدت أن جمع مئات الضباط في مكان واحد يمثل مخاطرة أمنية لم تعهدها المؤسسة العسكرية الأمريكية.
أما CBS News فقد أشارت إلى أن الاجتماع جاء “دون أجندة واضحة مسبقاً”، مما عزز التكهنات حول أبعاده الحقيقية.
هذه التغطيات الإعلامية أظهرت أن الحدث لم يُقرأ فقط بوصفه لقاءً تنظيمياً، بل كإشارة سياسية تحمل أبعاداً استراتيجية داخلية وخارجية.
مقارنة تاريخية: ماذا تغيّر؟
منذ تأسيس الولايات المتحدة، ارتكزت العلاقة بين الجيش والسلطة المدنية على مبدأ أساسي: خضوع الجيش للرئيس المنتخب ومؤسسات الدولة المدنية. جورج واشنطن رفض أي فكرة لتحويل الجيش إلى سلطة مستقلة. ترومان عام 1951 أقال الجنرال ماك آرثر رغم شعبيته، مؤكداً أن القرار النهائي بيد الرئيس لا القادة العسكريين. خلال حرب فيتنام، ورغم الانقسامات الداخلية، حافظ الجيش على موقعه التنفيذي دون انخراط مباشر في السياسة. في العقود الأخيرة، ورغم نفوذ البنتاغون، ظل الجيش ملتزماً بحدود السلطة المدنية.
لكن خطاب ترامب، وفق الغارديان، يعكس نزعة إلى “تسييس الجيش الأمريكي عبر إحياء قيم محافظة تتعارض مع مسار التحديث الاجتماعي والثقافي الذي شهده الجيش في العقود الأخيرة”.
أبعاد قانونية وسياسية
أحد أخطر أبعاد خطاب ترامب هو مسألة عسكرة الداخل. فقانون بوز كوميتاتوس (Posse Comitatus Act) يقيّد استخدام الجيش الفدرالي في الشؤون الداخلية المدنية. أي محاولة لتجاوز هذا الخط قد تثير مواجهة مع القضاء والكونغرس، وربما مع الرأي العام. كذلك، فإن التلويح بفقدان الرتب والمناصب لمن يعترض على رؤية الرئيس يطرح سؤالاً حول مدى استقلالية المؤسسة العسكرية. هل ستظل مؤسسة وطنية جامعة، أم تصبح أداة بيد الرئيس؟
قراءة في البعد السياسي
سياسياً، يسعى ترامب إلى إظهار نفسه كقائد أعلى لا ينازع، قادر على “إعادة الروح القتالية” للجيش. الرسالة موجهة للداخل الأمريكي بقدر ما هي للعالم الخارجي. داخلياً: يريد أن يظهر بمظهر الرجل القوي القادر على فرض النظام حتى في مواجهة “غزو داخلي”.
خارجياً: الخطاب يرسل رسالة ردع إلى الخصوم بأن الجيش الأمريكي يُعاد تشكيله على أسس أكثر صرامة.
لكن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر: إذ قد تُضعف تقليد الحياد السياسي للمؤسسة العسكرية، وتحوّلها إلى أداة صراع داخلي.
الاجتماع في كوانتيكو لم يكن مجرد لقاء عسكري روتيني، بل محطة فاصلة في العلاقة بين الرئيس الأمريكي والجيش. خطاب ترامب حمل وعوداً بإعادة بناء المؤسسة العسكرية على أساس “روح المحارب”، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات عميقة حول حدود هذه العلاقة:هل يبقى الجيش أداة وطنية جامعة، أم يتحول إلى أداة سياسية بيد الرئيس؟ هل نحن أمام إعادة تعريف لدور الجيش الأمريكي، أم مجرد خطاب تعبوي لن يصمد أمام تقاليد راسخة في الديمقراطية الأمريكية؟ في كل الأحوال، يظل اجتماع كوانتيكو لحظة كاشفة: فهو لم يغيّر فقط منطق النقاش حول الجيش والسياسة في الولايات المتحدة، بل وضع أسئلة جديدة على طاولة الديمقراطية الأمريكية برمتها.
📌 المصادر الصحفية الأساسية:
واشنطن بوست، 30 أيلول 2025
أسوشيتد برس (AP)، 30 أيلول 2025
CBS News، 30 أيلول 2025
People Magazine، 1 تشرين الأول 2025
The Guardian، 30 أيلول 2025
War.gov، 30 أيلول 2025

