مام جلال
رجل الدولة وبستان الورد
عباس عبد الرزاق
حين يُذكَر اسم جلال طالباني، لا نستحضر فقط زعيماً سياسياً بارزاً، بل نستحضر بستاناً من القيم والأفكار، ورجلاً جمع بين دفء الابتسامة وصلابة الموقف. كان “مام جلال” صوتاً للوحدة في زمن الانقسام، ورمزاً للحوار في زمن السلاح، وذاكرةً حيّةً لعراقٍ متعددٍ حلم به طوال حياته. هذه المقالة محاولة لاستعادة ملامح رجلٍ بحجم وطن، ما زالت بصماته حاضرة في وجدان شعبه بعد سنواتٍ من رحيله.
طفولة في رحم النضال
وُلد جلال طالباني عام 1933 في قرية كلكان بمحافظة السليمانية، في بيئةٍ ريفيةٍ حملت قيم الكرم والبساطة والصلابة. منذ شبابه المبكّر انخرط في العمل السياسي، متأثراً بواقع الكورد وتطلعاتهم إلى الحرية. درس الحقوق في بغداد، وهناك بدأ مسيرته الطويلة التي ستقوده لاحقاً ليصبح أحد أبرز وجوه السياسة العراقية.
مؤسس الاتحاد الوطني الكوردستاني
عام 1975، بعد انهيار الحركة الكوردية إثر اتفاقية الجزائر، كان طالباني أمام خيارٍ صعب: إما الاستسلام للواقع أو إعادة تنظيم الصفوف. فاختار الطريق الأصعب، وأسس مع رفاقه الاتحاد الوطني الكردستاني. ومنذ ذلك اليوم، صار “مام جلال” رمزاً لمرحلةٍ جديدة من النضال، عنوانها الواقعية السياسية والحوار مع القوى المختلفة.
كان الاتحاد الوطني بالنسبة له أكثر من حزب سياسي؛ كان مشروعاً لبناء وعيٍ قوميٍّ ديمقراطي، يُزاوج بين تطلعات الكورد في الحرية وضرورات التعايش مع بقية المكونات العراقية.
رجل الحوار والاعتدال
في زمنٍ سادت فيه لغة السلاح، اختار طالباني لغة الحوار. عُرف بقدرته الفريدة على جمع الخصوم حول مائدةٍ واحدة، وإيجاد حلول وسطية تضمن للجميع مساحةً من التفاهم. كان يردّد أن “السياسة ليست فن الغلبة، بل فن الممكن”. ولهذا ظلّ بيته في السليمانية، ثم في بغداد، ملتقى للسياسيين المختلفين. حتى خصومه كانوا يعترفون بمهارته في التفاوض وبابتسامته التي تُذيب الجليد. تلك الابتسامة لم تكن مجرد مظهر، بل انعكاسٌ لإيمانٍ داخلي بأن العنف لا يبني أوطاناً، وأن التفاهم هو الطريق الوحيد للاستقرار.
أول رئيس كوردي للعراق
في عام 2005، دخل جلال طالباني التاريخ من أوسع أبوابه حين انتُخب أول رئيسٍ كوردي لجمهورية العراق. لم يكن ذلك مكسباً شخصياً، بل تحوّل إلى رمزٍ لانفتاح عراق ما بعد الدكتاتورية على جميع مكوّناته.
خلال سنوات رئاسته، واجه تحدياتٍ جسيمة: تصاعد العنف الطائفي، تفكك مؤسسات الدولة، وصراعات القوى السياسية. لكنه ظلّ يحاول، بصبرٍ ودأب، أن يكون “رئيس التوازن”. كان يتنقل بين بغداد وأربيل والنجف وواشنطن وطهران، باحثاً عن صيغٍ تحفظ للعراق وحدته وتُبقي على شعرة التواصل بين مكوناته.
مكانة إقليمية ودولية
لم يتوقف تأثير طالباني عند حدود العراق. فبفضل ثقافته الواسعة، وإجادته عدة لغات، وخبرته الطويلة في السياسة، أصبح شخصيةً مرموقةً على الساحة الدولية. استُقبل في العواصم الكبرى باحترام، ورآه الغرب “شريكاً معتدلاً”، فيما نظر إليه الإقليم كشخصيةٍ قادرة على تخفيف التوترات. كان يؤمن أن الكورد ليسوا معزولين عن محيطهم، بل جزءاً من معادلةٍ إقليميةٍ ودولية، وأن نجاحهم مرتبط بقدرتهم على نسج علاقاتٍ متوازنة مع الجميع.
إنسان قبل أن يكون سياسياً
رغم المناصب والمسؤوليات، لم يتخلّ مام جلال عن إنسانيته. كان قريباً من الناس، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويُخاطبهم بلغةٍ بسيطةٍ بعيدة عن التعقيد. اشتهر بحسّه الفكاهي، وبحكاياته التي يرويها لتخفيف التوتر في الاجتماعات العصيبة.
كان سياسياً يعرف قيمة الابتسامة بقدر ما يعرف قيمة القرار. وربما لهذا السبب ظلّ محبوباً على نطاقٍ واسع، ليس فقط بين الكورد، بل أيضاً بين شرائح عراقية متعددة.
إرث باقٍ
رحل جلال طالباني عام 2017، لكن إرثه لا يزال حاضراً:
إرث الوحدة الكوردية. إرث الحوار الوطني. إرث العراق المتعدد الذي حاول أن يجعله وطناً للجميع.
اليوم، في ظلّ الانقسامات العميقة التي يعيشها العراق والمنطقة، تبدو الحاجة إلى استذكار تجربة مام جلال أكثر إلحاحاً. فقد كان يؤمن أن لا منتصر في الحروب الأهلية، وأن الطريق إلى الاستقرار يمر عبر التفاهم والشراكة.
يبقى جلال طالباني رمزاً فريداً في تاريخ العراق الحديث: سياسياً محنّكاً، زعيماً قومياً، ورئيساً جامعاً. لكنه قبل كل شيء، يبقى إنساناً ترك في ذاكرة محبيه رائحة الورود التي لا تذبل.
“مام جلال” لم يرحل، فهو باقٍ في ذاكرة وطن، وفي وجدان شعب، وفي كل حديقةٍ تفوح منها رائحة الأمل.


