د. إسماعيل نجم الدين زنگنه
باحث واستاذ جامعي
بعد تولي الرئيس الجديد للمحكمة الاتحادية العليا مهام منصبه، وبعد ان ردت المحكمة عدد من الدعاوى المسجلة لديها بحجة عدم الاختصاص، النظرة إلى الخطوات التي اتخذتها المحكمة ودور رئيسها في هذا التغييرات اخذت منحى آخراً، خاصة وأن حدود التغيير لم تقتصر على رؤية رئيس المحكمة في إطار عملها فحسب، بل وصل الأمر الى اعادة تنظيم تفاصيل سير أعمال المحكمة، خاصة عندما ألغت المحكمة نظامها الداخلي ووضعت نظامًا آخراً،بصورة يدرك القارئ بسهولة أن النظام الجديد يقلم أظافر المحكمة بطريقة باتت غير متاح لها القيام بالدور المهم والمؤثر الذي كانت تؤديه في الماضي.

و لإخراج الحدیث من إطار العموميات و الجمل الانشائية، و لتبرير ما تقدم من قول، سنقوم أدناه بإجراء مقارنة وتحليل بين النظامين: النظام الداخلي رقم 1 لسنة 2025 الذي نشر في الجريدة الرسمية “الوقائع العراقية” في العدد 4837 بتأريخ 1-9-2025، والذي بدأ العمل به من تاريخ نشره (المادة 24 من النظام الداخلي 2025)، والنظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم 1 لسنة 2022 الذي تم إلغاؤه بموجب (المادة 23 من النظام الداخلي 2025):
1.من الناحية الشكلية، فإن نظام 2022 أوسع وأطول مقارنة بنظام 2025، حيث يتكون نظام 2022 من (53) مادة، بينما يتكون نظام 2025 الحالي من (24) مادة. وهذا يحمل في طياته معنى واضحًا، وهو أن التكوين الجديد للمحكمة، وخاصة رئيسها، لديه برنامج ورؤية مختلفة لدور المحكمة في المستقبل.
2.من أبرز ما ورد في النظام الداخلي لعام 2022 ومنح المحكمة دورًا بارزًا هو محتوى المادتين (45) و (46). المادة 45 كانت تتعلق بموضوع (العدول عن مبدأ سابق)، والمادة 46 كانت تختص بـ (التصدي لعدم المشروعية)، أي أن المحكمة تستطيع تلقائيًا، عندما تنظر في دعوى دستورية، إلغاء نصوص أخرى في القانون المطعون فيه أو اعتبارها غير دستورية حتى لو لم يتم الطعن في هذا النص مباشرة. وبهذا الشكل، ألغت المحكمة الاتحادية العليا دورين مهمين في نظامها الداخلي، وهذا قد يفسره البعض على أن هذا الموقف الجديد هو تصحيح للمسار، لأنه لا ينبغي للمحكمة أن تمهد الطريق بهذا الشكل للعدول عن مبادئها القضائية (على الرغم من أن هذا العدول في النظام الملغى لم يكن غير مشروط)، كما أنه ليس من المناسب أن يعتبر نص قانوني غير مطعون فيه وغير مطلوب في عريضة الدعوى من قبل المحكمة تلقائيًا بأنه غير دستوري. لذلك، من الممكن أن يكون منظور التشكيل الجديد للمحكمة أن هذا الأمر يتعارض مع مبدأ أساسي وثابت في التقاضي والذي يقضي بأنه(تتحدد الدعوى بعريضتها والعريضة بطلبها).
3.المادة 18 من نظام 2025 والمادة 42 من نظام 2022 تتحدثان عن قدرة المحكمة على إجراء التحقيقات اللازمة عند النظر في الدعاوى الموجهة إليها، وبإمكانها طلب أي مستند أو وثيقة من أي جهة. الفرق بين النصين هو أن النص القديم كان يسمح للمحكمة، عند الضرورة، بطلب أي مستند أو وثيقة حتى لو كانت القوانين والأنظمة لا تسمح بذلك، بينما النظام الجديد لا يحتوي على هذا الاستثناء.
4.المادة 39 من نظام 2022 كانت تتضمن موضوع قدرة المحكمة على النظر في طلبات (القضاء المستعجل والأوامر على العرائض…) وفقًا لأحكام قانون المرافعات المدنية أو أي قانون يحل محله. هذا النص لم يُدرج في نظام 2025، وهذا قد يكون لدعم الرأي الذي يرى أن المحكمة الاتحادية العليا، نظرًا لأن قراراتها ملزمة ونهائية، لا ينبغي الطعن فيها أمام أي جهة أخرى. لأنه بافتراض قدرة المحكمة على إصدار مثل هذه القرارات، فإنها ستكون قابلة للطعن وفقًا لقانون المرافعات المدنية، وهذا لا يتناسب مع طبيعة قرارات المحكمة الاتحادية العليا.
5.المادتان 22 و 23 من نظام 2022 تضمنتا حكمين يتعلقان بتحديد شرطين بخصوص إمكانية الطعن في قانون الموازنة وقوانين الانتخابات، حيث حددت المادة 22 فترة 30 يومًا للسلطات العليا للطعن في قانون الموازنة أو أي نص من نصوص هذا القانون، ويجب على المحكمة إصدار قرارها بشأن الطعن خلال 30 يومًا من تاريخ تقديمه. أما المادة 23، فقد اشترطت للطعن في قانون الانتخابات ألا تقل المدة المتبقية لإجراء الانتخابات في أي دورة انتخابية عن ستة أشهر من التاريخ المحدد لإجرائها.
فقد تعود تلك النصوص إلى ضرورة عملية، فبما أن قانون الموازنة هو قانون يوضع أساسًا لمدة عام واحد، فمن غير المناسب أن يكون هذا القانون ونصوصه مهددة بالإلغاء باستمرار إذا تم الطعن فيه في أي وقت من قبل الجهات العليا. وكما هو معروف، فإن الجهة المشرفة على الانتخابات تحتاج، بناءً على نصوص قانون الانتخابات، إلى ستة أشهر على الأقل لإدارة عملية انتخابية. لذلك، فإن الطعن في هذا القانون ونصوصه قد يؤدي إلى إفشال الجهود والتكاليف الكبيرة لعملية الانتخابات إذا تم الطعن في القانون في أقل من ستة أشهر، وقامت المحكمة بإلغاء القانون المطعون أو البعض من نصوصه.
وبغض النظر عن كل ما سبق، فإن النظام الداخلي لعام 2025 لم يدرج مثل هذه النصوص، وبهذه الخطوة يمكن قراءتها على أن النظام قد عاد إلى الأساس العام، وجعل الطعن في قانون الموازنة وقانون الانتخابات متساويًا مع أي قانون آخر من حيث عدم وجود مدة محددة للطعن.
7المادتان 37 و 38 من نظام 2022، والمتعلقان بتنفيذ قرارات المحكمة من حيث الزمان، حيث تتحدث المادة (37/أولاً وثانيًا) عن أن أي قرار تصدره المحكمة، باستثناء القرارات المتعلقة بالنصوص العقابية، يصبح نافذًا من تاريخ صدور القرار أو الحكم، ما لم ينص مضمون القرار على تاريخ آخر. وإذا كان القرار يتعلق بنص عقابي، فإنه يصبح نافذًا من التاريخ الذي بدأ فيه نفاذ النص العقابي المطعون فيه. أما المادة (38) التي تختص بقرارات التفسير الصادرة عن المحكمة، فإنها تصبح نافذة من تاريخ بدء نفاذ النص المفسر، ما لم يحدد القرار تاريخًا مختلفًا.
ما يلاحظ هو أن النظام الداخلي لعام 2025 لم يتضمن أي نصوص من هذا النوع، كما أن قانون المحكمة ذاته(الأمر رقم 30 لسنة 2005 المعدل) لا يحتوي على نصوص من هذا القبيل. أي أن موضوع تنفيذ قرارات المحكمة من الناحية الزمنية أو التوقيت، قد عاد إلى نفس المشكلة التي كان يتحدث عنها سابقًا القانونيون وخبراء القانون الدستوري، خاصة الانتقاد الذي كان يوجه بخصوص عدم تحديد النفاذ الزمني لقرارات المحكمة.
مما سبق ذكره، ومن تفاصيل أخرى في النظام الداخلي لعام 2025، يتضح أن نظرة واستراتيجية عمل المحكمة الاتحادية العليا للمستقبل ستكون مختلفة تمامًا عما كانت عليه في السابق. قد يرى البعض ان هذا الاختلاف على أنه تصحيح لمسار عمل المحكمة، بحجة أنه لا ينبغي للمحكمة أن تحل محل السلطات الأخرى والمحاكم والهيئات القضائية الأخرى. وفي المقابل، فقد يرى آخرون أن هذا العمل هو تراجع كبير في دور المحكمة وتأثيرها، وتغيير لمسار عملها من مؤسسة قضائية مؤثرة إلى هيئة قضائية عادية، لدرجة أن القرارات الجريئة والمختلفة التي أصدرتها في الماضي بشأن الرواتب وقانون الانتخابات وغيرها قد تصبح من الماضي..
وفي الاخير، يستلزم الامر ان نركن الى تساؤل مهم، و هو هل ان النص الوارد في المادة (21) من النظام الداخلي 2025 ( وقبله في المادة 50 من النظام الداخلي 2022 الملغاة)، والذي يقضي بأن المحكمة الاتحادية تطبق في عملها القواعد الاجرائية الواردة في قانون المرافعات المدنية متى ما لم تجد نصاً في نظامها الداخلي، هو كفيل في تطبيق فحوى النصوص الاجرائية التي الغتها في نظامها الداخلي الجديد؟
الاجابة على هذا التساؤل نظرياً ليست فيها صعوبة، لأن كما أشرنا اليه اعلاه ، حذف و الغاء تلك النصوص من النظام الداخلي دليل صارخ حول تخلي المحكمة عن نهجها التوسعي في احكام رقابتها الدستورية بشتى صورها، بيد انه من الناحية العملية و التطبيقية الاجابة عن السؤال تكون لدى المحكمة نفسها، قد تثبت مذهبنا أو تفنده، هذا ما سوف يكشفه لنا قادم الاعمال والقرارات للمحكمة في قادم الايام..
هذا المقال منشور في الموقع الخبري ( پهنجهره- النافذة ) بتأريخ 14-9-2025

