الكاتب..جاسم حسين الخالدي
يُعدّ الانسحاب الأميركي من قاعدتي عين الأسد في الأنبار وفيكتوريا في بغداد محطة مفصلية في مسار الوجود العسكري الأمريكي في العراق. فبعد أكثر من عقدين من الوجود بأدوار متغيرة بين العمليات القتالية والمهام التدريبية والدعم الاستخباري، يأتي هذا الانسحاب ليعكس تحوّلاً في طبيعة العلاقة بين بغداد وواشنطن، وليثير في الوقت نفسه أسئلة جوهرية حول مستقبل العراق الأمني والسياسي.
يمثل هذا التطور بداية نهاية مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” الارهابي، إذ اتفقت الحكومتان على أن تتحول العلاقة العسكرية ابتداءً من العام المقبل إلى صيغة شراكة ثنائية قائمة على التدريب والاستشارة بدلاً من القتال المباشر. وبذلك يعلن الطرفان ضمناً أن العراق بات قادراً بدرجة أكبر على حماية نفسه، وأن الحاجة إلى القوات الأجنبية لم تعد ملحة كما كانت في سنوات الصراع مع التنظيم.
غير أن الانسحاب لا يعني مغادرة كاملة بقدر ما يشير إلى إعادة انتشار مدروسة. فواشنطن تسعى إلى تقليل تعرض قواتها لهجمات متكررة من فصائل مسلحة مقربة من إيران، عبر نقل ثقلها العسكري إلى مناطق أكثر أمناً مثل إقليم كردستان، حيث تبدو البيئة السياسية والأمنية أكثر استقراراً. ومن هذا المنظور، يشكّل الانسحاب خطوة وقائية تحافظ على مصالح الولايات المتحدة وتؤمن وجودها الرمزي دون أن يُفهم على أنه تخلٍ كامل عن العراق.
يحمل الانسحاب أيضاً بعداً سياسياً داخلياً لا يقل أهمية عن البعد الأمني. فقد شكّلت المطالبات الشعبية والبرلمانية بإنهاء الوجود الأجنبي ضغطاً مستمراً على الحكومات العراقية المتعاقبة، وبهذه الخطوة تكسب بغداد نقاطاً في ميدان السيادة الوطنية وتبرهن لجمهورها أنها قادرة على فرض رؤيتها. وبذلك يتحقق قدر من التوازن بين الحاجة إلى الدعم الخارجي من جهة، والرغبة في استقلال القرار الوطني من جهة أخرى.مع ذلك، فإن الخطوة ليست بلا تحديات. فبينما ترى الحكومة العراقية أن أجهزتها الأمنية اكتسبت خبرة كافية لملء الفراغ، يخشى مراقبون أن يترك الانسحاب فجوة قد تستغلها تنظيمات متطرفة أو أطراف إقليمية لفرض نفوذها. وتبقى المسألة رهن قدرة الدولة العراقية على إثبات أنها قادرة على حماية حدودها وصون استقرارها دون الاعتماد المكثف على القوات الأجنبية.ويبقى السؤال الأهم: هل ستقف الولايات المتحدة متفرجة إذا ما حدث تطور أمني كبير يهدد العملية السياسية في العراق، وهي التي كانت عرابتها منذ عام 2003؟ التجربة القريبة في عام 2014 تكشف أن التدخل الأمريكي لم يكن خياراً أخلاقياً بقدر ما كان استجابة لتهديد استراتيجي تمثل في اجتياح “داعش” لمساحات واسعة من البلاد وانهيار مؤسسات الدولة، فكان تشكيل التحالف الدولي بمثابة صمام أمان حال دون انهيار العملية السياسية برمتها. لكن المشهد الراهن مختلف، إذ يبدو أن واشنطن لم تعد مستعدة للعودة إلى الدور القتالي المباشر، بل ستبقي تدخلها في حدود ما يحفظ مصالحها الأساسية، مثل منع عودة التنظيمات المتطرفة، وكبح التمدد الإيراني، وضمان استقرار سوق الطاقة. وهذا يعني أن صمام الأمان لم يعد يقوم على وجود قوات قتالية كما في السابق، بل على أدوات أكثر انتقائية، مثل الدعم الاستخباري والتدريب والغطاء الجوي عند الضرورة، في حين تتحمل الدولة العراقية العبء الأكبر من المسؤولية.إن مغادرة القوات الأمريكية لهاتين القاعدتين لا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد قرار عسكري، بل هي تحوّل استراتيجي يحمل في طياته رسائل سياسية متشابكة. فهي من جهة استجابة لمتطلبات الداخل العراقي، ومن جهة أخرى إعادة تموضع أمريكي لتقليل الخسائر وضمان المصالح. وبين هذا وذاك، يبقى مستقبل العراق معلقاً بمدى نجاحه في تحقيق معادلة صعبة تجمع بين تثبيت السيادة الوطنية والمحافظة على الشراكة الدولية، وبين الحاجة إلى الاستقلال الأمني وتجنّب العودة إلى دوامات الفوضى التي خبرها في سنوات مضت.
المصدر .. الصباح