سعدي أحمد بيرة
ما يجري في العراق اليوم ليس صراعا أو منافسة سياسية، فهذه الأخيرة تجري بشكل اعتيادي ودائم في مختلف البلدان الديمقراطية، حسب مجموعة من القواعد والأسس، التي تستند إلى أعراف ومؤسسة اللعبة الديمقراطية، هي الدستور والحريات العامة ومؤسسة البرلمان وآليات الحُكم ومؤسساته؛ لكن ما يجري في العراق اليوم هو محاولة لتحطيم كل ذلك، عدم الاعتبار له وتجاوزه وبناء عوالم سياسية ومؤسساتية بغير ما بُني عليه العراق الحديث، ككيان ديمقراطي.
يحدث ذلك بشكل حازم، سواء أكان عبر آلية ذاتية مقصودة من قِبل بعض الأطراف، أو أخرى موضوعية من قِبل تشكيلات سياسية أخرى، لكنهما في المحصلة ستصلان إلى النقطة نفسها.
ثمة على الأقل ثلاث مؤشرات وأدوات وتحركات تراكم يوما بعد آخر ذلك الشعور والمنحى غير الحميد.
فأولا ثمة استقطاب هائل بين القوى السياسية العراقية، يصنع شرخا يبدو مستعصيا على أية إمكانية لإعادة ردمه وإعادة بناء علاقات ودية وسلمية بين القوى السياسية، خصوصا زعماء الأحزاب السياسية الرئيسية.
فلأول مرة في الحياة السياسية العراقية الحديثة ثمة هذا المستوى من المقاطعة والمواجهة الكلامية والشخصنة بين الزعماء السياسيين العراقيين، وهو أمر قد ينعكس في أية لحظة داخل الشارع العراقي، وتستعاد لحظات دموية لا تنسى من تاريخ العراق، حينما كان يتواجه مناصرو الأحزاب السياسية العراقية، وحيث أن تلك المواجهة خلقت أجواء “الإرهاب الأهلي” التي أوصلت العراق إلى الديكتاتورية فيما بعد.
كذلك هناك مؤشرات واضحة على عدم قدرة القوى والشخصيات السياسية على التوافق فيما بينها، وعلى مختلف المستويات. فهذه القوى العراقية لا تكاد تجد آلية لتتفق على شخصيات سياسية أو أخرى، لهذ المنصب السياسي أو ذلك الإداري.
حينما يجري ذلك، يصير مشروعا السؤال حول إمكانية الاتفاق والتوافق على استراتيجية العراق المستقبلية، خصوصاً وأنه قادم على ترسانة ضخمة من الملفات العصية، من دوره وشكل انخراطه في الصراعات الإقليمية، مرورا بالفساد الذي يُغرقه من كل حدب، إلى مواجهة الإرهاب والأزمة البيئية الخانقة.
المستوى الثالث للأزمة العراقية الراهنة يتمثل في استبدال أدوات الضغط غير الشرعية مكان المؤسسات وآليات العمل الديمقراطية. فالعديد من القوى السياسية العراقية صارت تعتبر الشارع أداة لخلق حقائق وفروض سياسية على أرض الواقع، وهي نفسها التي لم تتوانَ يوما من التهديد بالعنف والتخوين والعلاقات الإقليمية.
هذا الواقع الجديد الذي يجب أن يدفع للسؤال: لكن ماذا بعد؟، أين الديمقراطية والأسس الموضوعية التي تكون العراق الحديث عبرها؟ هل سيؤدي كل مثل هذه الأوضاع إلى غير ما كانت عليها في كل التجارب العالمية، حيث مزيج الأزمات الأهلية والشعبية والوطنية، التي حطمت الكثير من البلدان وأدت بمستقبل مجتمعاتها إلى الهلاك؟
ضمن السياق الكلي لما يحدث، جدير بالجميع أن يسألوا عن موقع ودور وفاعلية إقليم كردستان ضمن العراق.
أن تسأل القوى السياسية الكردستانية نفسها أولا، بالذات من موقع قدرة وطاقة إقليم كردستان لأن يكون جزءا من الاستقطاب والتصارع المفتوح الذي يؤسس داخل العراق، ومدى تأثير ذلك على وضعية إقليم كردستان الفيدرالية من السلطة المركزية في العراق، وإمكانية تبديد مثل هذه الأزمات السياسية لمكتسبات شعب كردستان، السياسية والاقتصادية والتنموية!!.
لا يتحمل إقليم كردستان، بحكم صفته الدستورية وموقعه الجيوسياسي أن يكون قائما وسائرا على سكة طويلة المدى من الصراعات السياسية ذات حدة وديمومة واستقطاب، بالذات بين القوى السياسية الكردستانية شديدة التمثيل للقواعد الشعبية في كردستان.
بهذا المعنى، فإنه على كردستان أن تمنح العراق كله، نموذجا لآلية التوافق السياسي والركون إلى اللعبة الديمقراطية في البلاد. بحيث يكون التوافق ووحدة الصف الداخلي في كردستان فاعلا أساسيا لأن يتمكن الإقليم من لعب دور إيجابي بين القوى السياسية العراقية، على مختلف مستويات خلافاتها الداخلية وصراعتها.