الكاتب .. د. حسن الجنابي
المياه هي العامل المحدد لوجود او اختفاء الأهوار. وكان نشوء الأهوار منذ البدء نتيجة الى الوفرة الطبيعية للمياه في بلاد الرافدين وتعاقب المواسم بين السنين المائية الرطبة والمعتدلة والشحيحة، واستمر الوضع هكذا حتى الربع الأخير من القرن العشرين.
آنذاك أصبح التدخل البشري في الدورة الطبيعية لمياه الرافدين صارخاً. صحيح ان العراق انشأ سدودا ومنشآت قبل ذلك التاريخ بعدة عقود (دربندخان ودوكان) لكن طاقاتها التخزينية كانت قليلة ولا تمثل سوى 15% من معدل الإيرادات السنوية. أما المنشآت الأخرى فكانت منشآت تنظيمية وليست تخزينية، تستخدم في التوزيع العادل للموارد المائية لأغراض الزراعة على جانبي النهرين وفي المدن والقصبات البعيد نسبياً عن أعمدة الأنهار. بل ان الزراعة نفسها، وبالأخص زراعة الرز (الشلب) كانت تمثل ممارسة تسهم في زيادرة رقعة الأراضي الرطبة، اذ تتكون إثرها مساحات كبيرة نسبياً مغمورة بالمياه العذبة ولفترة طويلة من السنة ان لم تكن دائمية كما هو الحال في المنخفضات غرب مدينة الحيرة التاريخية ومدينة المشخاب المشهورة بزراعة أفضل انواع الشلب.هذا الوجود الدائم لمساحات هائلة من الأهوار تتراوح بين 10 الى 15 الف كيلومتر مربع (أكبر من مساحة لبنان) خلق القفزات الحضارية الأولى في التاريخ البشري، أي تلك القائمة على الاستقرار والإنتاج وبناء الحواضر والمعابد والمساكن والمقابر والقصور وغيرها. ولم تكن تلك المنجزات ممكنة لولا الديمومة التي تميزت بها المسطحات المائية عبر تعاقب الفصول في نقطة التقاء الانهار العظيمة الفرات ودجلة والكرخة والكارون.
منذ الربع الأخير للقرن الماضي وحتى اليوم أنشأت سدود ومنشآت تخزينية كبرى في البلدان الأربعة تزيد عن 300% عن طاقة التصريف السنوي لأنهار وروافد حوض الرافدين. ولذلك لم يعد الجريان طبيعياً وأصبحت الأهوار مهددة بهذا التدخل البشري الفظ في الدورة الطبيعية للمياه.
تكمن المشكلة في القصور عن إدراك الحدود المسموح بها للتدخل البشري بحيث يضمن معه استدامة المورد المائي في البلدان الأربعة المشتركة بدجلة والفرات وروافدهما. كذلك هناك قصور محزن لدى القائمين على القطاع المائي في العراق في إدراك أهمية منطقة الأهوار للعراق وللعالم، في ابعادها الأنسانية والأقتصادية والثقافية والتاريخية. فالأهوار بالنسبة لبعضهم هي المياه فقط مثلها مثل أي سد او منشأ مائي، وهذا دليل جهلهم وسبب قسوتهم واحقادهم وتعاليهم على سكان الأهوار. فعندما يرى أحدهم ان لديه امكانية تخزين المياه في سد ما او اطلاقها بحسب حاجة آنية هنا او هناك، يتخيل ان الأمر ينطبق على الأهوار ايضاً باعتبارها خزان مياه لا حضارة ولا سكان ولا تنوع احيائي ولا تاريخ ولا التزامات دولية ولا تراث انساني.
ولكي نقرب الصورة قارن مثلاً جفاف بحيرة ساوة، او بحيرة الرزازة، او تخيل جفاف بحيرة الحبانية لأسباب تشغيلية او غيرها، بل تجفيف أكبر خزان مائي العراق أي بحيرة الثرثار أو أي سد أخر، فلن يموت المواطنون ولا مواشيهم ولا تختفي حضارة ولا يمحى تاريخ ولا ينزح السكان مثلما يحصل عند تجفيف الأهوار. هنا تمييز واضح بين الجهل والقسوة وسوء الإدارة وبين ادراك عظم المسؤولية والقيام بالواجب والخدمة العامة على أكمل وجه.
لذلك لا بد من التذكير بأن السيد رئيس الجمهورية د. برهم صالح أطلق في فترة سابقة مبادرة طموح تحت مسمى “مبادرة إنعاش وادي الرافدين” وقال فيها اشياء كثيرة لم أناقشها في حينها برغم ملاحظاتي الجدية على النص، لكني اعتبرت ان انخراطه في موضوع البيئة والتنوع الأحيائي والتكيف مع متطلبات التغير المناخي واطلاقه لمبادرات في هذا الميدان شيء ايجابي بغض النظر عن النص المكتوب.
الآن انا اذكّر الرئيس بأن ما يحصل في الأهوار العراقية هو كارثة كان يمكن التخفيف منها ان لم يكن تجنبها. فالأمر في غاية البساطة بان ما حصل، في اهوار الحويزة على اقل تقدير، هو قرار تشغيلي أكثر من كونه حالة طبيعية. بمعنى ان هناك خسائر كبيرة انسانية واقتصادية بسبب انعدام وصول اية كمية من المياه اليها وسببها هو الغاء حصة الأهوار. ليتفضل السيد الرئيس بالإطلاع على إطلاقات المياه مؤخر سدة الكوت وهي تزيد على 200 متر مكعب في الثانية حالياً. فمن اليسير جداً تخصيص 40 الى 50 متر مكعب منها الى هور الحويزة حتى لو كان على سبيل المراشنة بين اسبوع وآخر. كان من شأن ذلك انقاذ الناس والحيوانات والقرى في اهوارنا الشرقية دون الإضرار بأية التزامات أخرى. أرجو ان لا يتطوع أحد لتفسير هذا الإجحاف بالتغير المناخي.
السيد الرئيس يدرك ان على العراق التزامات في الحفاظ على الأهوار، كموقع للتراث الإنساني، فضلاً عن كونها التزامات دولية فهي ايضاً سياسية واجتماعية وأخلاقية تتطلب حماية المنطقة وسكانها نابعة من كونه يشغل أعلى منصب في الدولة. فكيف يمكن للرئيس إنعاش وادي الرافدين ان لم نكن قادرين على الحفاظ على أهوارنا. كذلك لم أقرا أو أسمع تصريحاً واحداً (حسب علمي وارجو ان اكون مخطئاً) حول التضامن انسانياً مع السكان الذين يجري افقارهم وتهجيرهم في ظروف شديدة القسوة؟
يستطيع الرئيس وكذلك السيد رئيس الوزراء تحشيد جزء من موارد البلد لتقديم المساعدات الإغاثية لسكان الأهوار وحملهم على البقاء في مناطق سكناهم وانقاذ حيواناتهم من العطش والجوع. ويمكن تزويدهم فوراً بالأعلاف والمياه الصالحة للشرب والمستلزمات الطبية والبيطرية والأغذية وما شاكل ذلك مما تقوم به جمعية الهلال الأحمر مثلاً.
لا شك بأني أقدر انشغال الرئيسين في وضع سياسي مربك ولكنها يتحملان مسؤولية هذه البلاد وهناك كارثة تحصل امام اعيننا وعليهما واجب تخصيص جزء من الإهتمام لمعالجة آثارها في الحويزة والجباش والحمّار وغيرها.