عثمان أحمد أكرم
مدون، مختص تقني في مجال الذكاء الاصطناعي

هناك حدث ضخم يحدث باستمرار داخل الأرض، يلتهمها ويتغذى على شعوبها: مراكز البيانات، المحرك الخفي للعصر الرقمي.
في كل مرة تستخدم فيها هاتفك الذكي، أو تتصفح الإنترنت، أو تشاهد فيلما، فإنك تعتمد على بنية تحتية ضخمة وغير مرئية تقريبا، تتمثل في مراكز بيانات هائلة، ومبانٍ عملاقة مليئة بالخوادم (السيرفرات)، التي تشكل العمود الفقري لعالمنا التقني.
هذه الخوادم تقوم بمعالجة البيانات وتخزينها ونقلها إلينا ومنا، وتحوي كل ما يمكننا الوصول إليه من معلومات.
ومع تطور الذكاء الاصطناعي، تحولت هذه المراكز إلى ثروة حقيقية، بل إلى مصانع رقمية لتدريب النماذج الذكية المعقدة، التي تغيّر عالمنا شيئا فشيئا.
الطلب الضخم على الطاقة، الذي قد يصل إلى غيغاواط كاملة للمنشأة الواحدة، دفع شركات كبرى مثل “مايكروسوفت” و”أمازون” لبناء مراكز بجوار محطات نووية
الوجه الآخر لمراكز البيانات
ورغم أهميتها، فإن هذه المراكز تستهلك كميات فلكية من الكهرباء لتشغيل خوادمها، إضافة إلى كميات هائلة من المياه لتبريدها، فضلا عن المواد الخام اللازمة لتصنيعها. يكفي أن نعلم أن مركز بيانات واحد قد يستهلك طاقة تعادل ما تستهلكه مدينة صغيرة كاملة.
هذا الطلب المتزايد يفرض ضغطا كبيرا على شبكات الكهرباء الوطنية، فتضطر الشركات إلى بناء محطات جديدة، وتحديث شبكات النقل خصوصا لهذه المراكز.
لكن بدلا من أن تتحمل شركات التكنولوجيا العملاقة هذه التكاليف، يتم توزيعها على المستهلكين العاديين، والنتيجة: ارتفاع فواتير الكهرباء للمنازل والشركات الصغيرة، التي تجد نفسها تموّل بشكل غير مباشر أرباح أغنى شركات العالم.
وغالبا ما تبقى العقود بين هذه الشركات وشركات المرافق سرية، ومحمية باتفاقيات عدم الإفصاح.
من المراكز التقليدية إلى مراكز الذكاء الاصطناعي
منذ عام 2021 تضاعف عدد مراكز البيانات، وتحولت إلى مراكز متخصصة بالذكاء الاصطناعي، مع فروقات جوهرية بينها وبين المراكز التقليدية:
الاتصال: (Connectivity)
التقليدي: يركز على قربه من المستخدمين لتقليل زمن الاستجابة.
الذكاء الاصطناعي: أقل حساسية للموقع، إذ إن عملية التدريب مغلقة، ويمكن إنجازها بجوار مصادر الطاقة الرخيصة بدل المدن الكبرى.
إعلان
الحوسبة: (Compute)
التقليدي: يعتمد على وحدات معالجة مركزية (CPUs).
الذكاء الاصطناعي: يعمل كـ”حاسوب عملاق” قائم على آلاف وحدات معالجة الرسومات (GPUs) عالية الكثافة.
التبريد: (Cooling)
التقليدي: يعتمد على التبريد بالهواء.
الذكاء الاصطناعي: يتطلب التبريد بالسائل لامتصاص حرارة أعلى بـ 4 آلاف مرة من الهواء، ما يتيح تركيزا أكبر للمعالجات.
هذا ما دفع “ميتا” لهدم مركزها القديم؛ لأنه لم يعد يواكب متطلبات الذكاء الاصطناعي.
الطاقة: (Power)
التقليدي: يستهلك 3-7 كيلوواط لكل خزانة.
الذكاء الاصطناعي: يستهلك 100 كيلوواط أو أكثر لكل خزانة، أي ما يعادل 30 ضعفا.
هذا الطلب الضخم على الطاقة، الذي قد يصل إلى غيغاواط كاملة للمنشأة الواحدة، دفع شركات كبرى مثل “مايكروسوفت” و”أمازون” لبناء مراكز بجوار محطات نووية، أو حتى الاستثمار في محطات خاصة بها، لتتحول فعليا إلى شركات طاقة.
أما بالنسبة لاستهلاك المياه، فإن تبريد مراكز البيانات يتطلب كميات كبيرة من الماء، وتقدر دراسة MIT أن المركز يحتاج إلى حوالي 2 لتر من المياه لكل كيلوواط/ ساعة من الكهرباء التي يستهلكها.
علما أن استهلاك الكهرباء من مراكز البيانات بلغ حوالي 415 تيراواط/ ساعة في عام 2024، وهو ما يمثل قرابة 1.5 % من استهلاك الكهرباء العالمي، وسيتضاعف إلى حوالي ألف تيراواط/ ساعة عام 2030 حسب تقدير وكالة الطاقة الدولية (IEA).
أما بالنسبة للاستهلاك الفردي حسب ما جاءت به شركة غوغل، فيستهلك الاستعلام الواحد في نموذج “Gemini” ما يقارب 0.26 مل من الماء في المتوسط.
وأخيرا، تأثير هذه المراكز على البيئة سبب لارتفاع درجات الحرارة، والتأثير الأكبر يأتي من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أثناء توليد الكهرباء المستهلكة في تدريب واستدلال النماذج؛ فكلما اعتمدت الشبكات على الوقود الأحفوري، زادت الانبعاثات.
وقد أشارت IEA إلى أن الولايات المتحدة والصين تمثلان حوالي 80% من نمو استهلاك كهرباء المراكز حتى عام 2030، ما يجعل سياسة الطاقة في هاتين الدولتين محورية.
التقدم التكنولوجي في مجال الذكاء الاصطناعي يسوَّق له كمنفعة عامة، لكنه في الواقع يموَّل من جيوب المواطنين العاديين
مصانع المستقبل

