الكاتبة.. فريدة الحسني
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات تقنية للترفيه أو التواصل، بل غدت فضاء مفتوحا يعكس صورة المجتمعات بكل تنوعها وتناقضاتها. في هذا الفضاء تجد المفكر والعالم كما تجد الجاهل والمشوه للحقائق وتجد الباحث عن المعرفة جنبا إلى جنب مع الباحث عن “الطشة” والشهرة العابرة. وبين هذا الزخم الهائل، يضيع وعي الأجيال كبارا وصغارا، في دوامة لا تهدأ. فمتى نعي أن هذه المنصات ليست مجرد تسلية عابرة، بل قوة تصوغ العقول وتعيد تشكيل الواقع
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل ندرك خطورة هذا الفضاء على حاضرنا ومستقبلنا قبل أن يفوت الأوان؟المعادلة الصعبة بين النفع والضرر…وسائل التواصل منحت البشرية فرصة غير مسبوقة، بضغطة زر يمكن لأي شخص أن يصل إلى المعلومة، يتعلم، يناقش، أو ينشر أفكاره على الملأ. لم يعد العلم حكرا على النخب ولا الحوار مقتصرا على القاعات الأكاديمية، لكن الوجه الآخر لهذه الحرية يكمن في الفوضى، إذ صار الجاهل يمتلك نفس المنبر الذي يمتلكه العالم، وصار المحتوى السطحي ينافس الفكر الرصين. ومع انحياز الجمهور عادة إلى الأسهل والأكثر صخبا، تراجعت القيمة أمام الضجيج.
يظن البعض أن الأجيال الشابة وحدها ضحية هذا الواقع الرقمي، لكنها ليست كذلك، فالكبار الذين يفترض أن يكونوا أكثر وعيا ونضجا انجرفوا هم أيضا وراء الشائعات والمهاترات، أو وقعوا في فخاخ الترند السطحي. هنا تتضاعف المعضلة: كيف ننتظر من الصغار أن يتعاملوا بوعي مع هذه الوسائل، وهم يرون قدواتهم يشاركون في نفس الفوضى؟
لا يمكن إغفال ظاهرة “الطشه” التي تسيطر على جزء كبير من هذا الفضاء. أشخاص يسعون إلى الشهرة اللحظية بأي ثمن، عبر إثارة الجدل أو استعراض حياتهم الخاصة أو نشر التفاهة، هذه الظاهرة تخلق ضوضاء طاغية تغطي على الأصوات الجادة وتحول المنصات إلى مسرح استعراض فارغ بدل أن تكون ساحة حوار فكري ومعرفي.
الوعي لا يلقن بالكلمات، بل يكتسب بالممارسة والنموذج العملي. لذلك فإن مسؤولية الكبار أكبر من مسؤولية الصغار إن لم يقدم الآباء والمربون والمثقفون نموذجا رشيدا في التعامل مع هذه الوسائل، فلن يكون بوسع الشباب أن يكتسبوا الوعي المطلوب. المسؤولية هنا جماعية تبدأ من الفرد لكنها تمتد إلى الأسرة، والمدرسة، والمؤسسة الإعلامية
لن يكون من الواقعي أن نحلم بفضاء رقمي مثالي خال من الفوضى، لكن يمكن أن نسعى لفضاء أكثر نضجا ومسؤولية
إدراك أن الكلمة في الفضاء الرقمي قد تغير واقعا بأكمله وأن النشر ليس عملا عابرا
على الإعلام والجامعات والمراكز الثقافية أن تحتل مساحة أكبر في هذا الفضاء لتعيد التوازن وتكسر هيمنة المحتوى السطحي
اخيرا…وسائل التواصل الاجتماعي مرآة صادقة لوعينا الجمعي إذا غلبت عليها التفاهة والسطحية فذلك انعكاس لحالنا نحن. وإذا استطعنا أن نحولها إلى فضاء للحوار الراقي والمعرفة المسؤولة فستكون بحق جسرا نحو نهضة فكرية واجتماعية
يبقى السؤال مطروحا بإلحاح: متى تستفيق الأجيال، كبارا قبل الصغار وتدرك أن هذه الحديقة المفتوحة ليست فقط للفرجة والتسلية، بل ميدان خطير يصنع العقول ويحدد ملامح المستقبل.
المصدر .. العالم الجديد