(فرست عبدالرحمن مصطفى)
في زمنٍ أعمى، لا يُكرَّم الوعي بل يُدان.
من يحاول أن يرى أبعد من حدود العشيرة يُتَّهم بالتمرّد ومن يجرؤ على كسر الصمت يُوصَف بالمجنون ومن يرفض الركوع لسلطة العادة يُنفى من دفء المجتمع كأنه ارتكب إثماً.
إنه زمنٌ يقف فيه الجهل متباهياً في صدر المجلس، بينما يُقصى الوعي إلى الزوايا المظلمة كي لا يُربك الانسجام العام.
زمنٌ يُقدَّس فيه الماضي حتى وإن كان مليئاً بالخطايا ويُخنق فيه كل صوتٍ يدعو إلى التغيير باسم الاحترام للتقاليد.
في هذا المجتمع تُقاس قيمة الإنسان بصلات الدم لا بعمق الفكرة وتُمنح الكلمة للقبيلة قبل العقل ويُختزل الحق في رأي الشيخ أو الزعيم، أما الفرد الحرّ فمكانه على الهامش يُراقَب ويُتهم بالغرور أو الكفر أو الانفصال عن الواقع.
الجهل هنا لا يعيش صدفة بل يتغذى على الخوف.
خوف الناس من الخروج عن الصف وخوف الآباء من أبنائهم الواعين وخوف الجماعة من الفرد الذي يسأل “لماذا؟”.
فالسؤال يهدد نظام الطاعة الذي بُنيت عليه القيم الزائفة والوعي يُربك النظام الذي اعتاد أن يُقاد لا أن يفكّر.
حين يرفع المجتمع شعار “السمع والطاعة”، يخسر حقه في أن يرى.
وحين يقدّس الموروث أكثر من الحقيقة، يتحوّل الدين والعرف والوطن إلى أدواتٍ لترويض العقول.
في هذا الزمن الأعمى يُصفَّق للجاهل لأنه ابن العشيرة، ويُسخَر من الواعي لأنه خرج عن الصف.
يُكافأ من يردّد ويُعاقَب من يبتكر.
يُشاد بالولاء ويُدان الاختلاف.
لكن رغم هذا السواد تبقى بصيرة البعض تقاوم.
تلك العقول التي لا تنحني للمقدّس المزيف ولا تخاف أن تضع الأسئلة على المائدة أمام الجمع.
قد يُسخر منهم اليوم وقد يُحاربون غداً لكنهم وحدهم الذين يزرعون في العتمة بذور النهار.
ففي زمنٍ أعمى، يكفي أن تُبصر… لتكون ثائراً…