خالد سليمان
في خريف عام 2019، قبل أن تبدأ الاحتجاجات التشرينية بأسابيع، دخلنا مع زميل في المهنة إلى مقهى شعبي في وسط مدينة الديوانية جنوبي العراق. كان الوقت عصراً وبدا المقهى مزدحماً، وكانت غالبية الجالسين فيه من الشباب. أجبرني اختلاط الأصوات العالية بتلك التي تخرجها “طقطقة” أكواب وصحون ومعالق الشاي، أن أرفع صوتي أثناء الحوار مع من كنت أتحدث معهم. لا ننسى في كل الأحوال، بان الأحاديث بنبرة عالية في الفضاء العراقي العام شيء مألوف، فما بالك إذا كان ذلك في مقهى شعبي حيث الأجساد قريبة من بعضها حد الالتصاق.
أصبح وجود عدد كبير من الشباب في المقهى موضوع نقاش دار بيني وبين أصدقائي، ذلك أن حضور الشباب الكثيف في الفضاء العام في غالبية المدن العراقية كما في مقهانا، يثير الانتباه والفضول. سألت محدثي وهو واحد من كتاب المدينة عن العلاقة المباشرة بين احتياجات هذه الشريحة الواسعة من المجتمع وبين المدن التي تفتقد للبنى التحتية والخدمية، وكذلك سوق العمل والموارد المتوفرة، بخاصة في ظل شح المياه والحرارة المرتفعة. حين سمع مني “شح المياه” كشف لي محدثي دون مواربة عن أمر، توقفت لحظة كي استوعبه.
لقد قالي بأنه أب لـ (9) أولاد وبنات ويضطر أن يشتري لهم يومياً أكثر من 20 قنينة مياه معبئة في أوقات دوامهم المدرسي فقط، ذلك أن مياه الإسالة التي توزعها شبكة توزيع المياه الحكومية لا تصلح للشرب في المدارس، ناهيك باحتياجات البيت للكمية ذاتها من المياه أو أكثر. قرأ الرجل الذي أشارت ملامحه أنه لم يبلغ الأربعين، علامات الاستفهام في أسئلتي حول أعداد أطفاله، ما أشار الى أن عائلة مكونة من 10 أفراد أو أكثر تعد لليوم، أمراً طبيعياً في المجتمع الجنوبي في العراق، مع استثناءات معينة بطبيعة الحال. لقد لخص هذا الجواب ما دار في ذهني بخصوص أعداد الشباب في المقهى وهم يتناولون الشاي والعصائر، ولا تترك أياديهم الهواتف النقالة للحظة. تَدَخل في الأثناء زميل صحفي قائلاً: لا تكمن المشكلة في العدد فحسب، بل في بطالة مخيفة يعيشونها. ويعود سبب وجودهم في المقاهي كما قال لي، إلى إمكانية الوصول إلى الإنترنت، خاصة أن أوضاعهم الاقتصادية لا تساعدهم على امتلاك البيانات على أجهزة الموبايل الشخصية.
تتحرك الشريحة الشبابية التي تتراوح أعمارها بين (15-24 سنة) مثل خلايا الأحياء الدقيقة في نظام الأرض تماماً، وتغذي الأحداث في العراق ودائمة الحضور فيها بحثاً عن أي شيء يلبي احتياجاتها اليومية. لا مبالغة في القول بأن العالم السفلي للأحداث العراقية، يصنعه هؤلاء الشباب بأعدادهم الكبيرة ورغبتهم بأن يكونوا على العتبة وليس في القاع. والشيء الوحيد الذي يعرفونه هو انهم لا يعرفون لماذا ينزلون إلى الشارع، قد يكون الهدف هو الانضمام إلى بضعة أصحاب وتناول وجبة لذيذة ليس أكثر. هذا ما كان يحصل أثناء استيلاء المحتجين الصدريين على بناية مجلس النواب حيث قال لي مراقب من بغداد، “يباع سندويش فلافل في المطاعم الشعبية في العاصمة بـ 1000 دينار عراقي بينما كان يقدم منظمو الاحتجاجات في بناية مجلس النواب وجبة من الرز واللحم المفروم “القيمة” بنصف السعر المذكور، مما كان يدفع بأعداد كبيرة من الشباب والصبية للانضمام الى الاحتجاجات في بناية مجلس النواب حيث كانت تكلفهم أجرة النقل والوجبة 1000 دينار فقط”.
يشكل الشباب أكثر من 30 في المئة من مجموع سكان العراق اليوم، وهي الكتلة السكانية الأكثر مندفعة لتحديث نمط حياتها وتوفير احتياجاتها الاقتصادية والاجتماعية والفردية، انما النسبة الأعلى بينها عاطلة عن العمل، ما يشكل كتلة اجتماعية قابلة للانفجار والتوسع بغير شروط في خياراتها، فضلاً عن تفاقم معدلات الفقر بينها. يذكر ان نسبة الفقر تتجاوز 31 في المئة في البلاد بالتوازي مع نمو سكاني يضع العراق في المرتبة 36 عالمياً والمرتبة الرابعة بين الدول العربية بحسب بيانات حكومية ودولية حديثة.
في غياب مراكز استبيان وأبحاث مستقلة، يتوقع ان تكون نسبة الفقر أعلى من البيانات التي توفرها المؤسسات التابعة للحكومة العراقية.
تالياً، يحدث هذا التحول السكاني في ظل فقر “عظيم” يمكن رؤيته في الحياة اليومية للناس، في البنى التحتية، الأسواق، إدارة المياه، التعليم وقطاعات أخرى كثيرة. ففي غالبية المدن العراقية، الجنوب والوسط تحديداً، لا يعلو سلطة الوحل أي شيء في الشتاء، اذ تبتلع المياه الراكدة على أطراف الشوارع وفي الأزقة أقدام المارّة، فيما تخترق العواصف الترابية رئاتهم في الصيف. والى جانب هذا البؤس اليومي، هناك يافطات وصور وشعارات وطنية وسياسية على لوحات طويلة وعريضة في الشوارع، يظهر فيها العراق قوياً وحديثاً ومعافياً، انها مفارقة لا يمكن العثور فيها على القوة والمعافاة في ذلك المقهى الذي جلسنا فيه.
إن الأحزاب العراقية تستثمر في هذا اليُتم الثقافي والاجتماعي حيث يسود فيه التخلف، التزويج المبكر، تراجع مستوى التربية والتعليم، الانفجار السكاني وانعدام فرص العمل. بناءً عما ذكر، يمكن القول بأن أسباب الصراعات المحتدمة تكمن في وفرة مصادر تغذيتها، وهي ليست سياسية داخلية وخارجية فقط ولا هي مذهبية اقصائية بحتة كما تريد الأوسط السياسية والإعلامية والدينية تسويقها؛ بل انها تداعيات واقع اجتماعي-اقتصادي وبيئي أيضاً، تفور مثل بركان من تحت الصخور. ولا يعني مثل هذا الكلام بطبيعة الحال، انكار الصراع التاريخي بين النجف والقم على قيادة العالم الشيعي، مثلما لا يمكن انكار رغبات الاستفراد والاستئثار بين الأقطاب الشيعية المتصارعة على الحكم، انما السؤال هو: من اين يأتي “عود ثقاب” اشتعال الشارع العراقي كلما اقتضى الأمر، وأين تكمن قابلية تكرار نشوب الحرائق الداخلية في كل مرة، تعرضت فيها الدعائم الدينية “الشيعية” المترابطة ارتباطاً وثيقاً بالسياسية الى انزياح ما؟
أجدني هنا، ميالاً الى ما يمكن تسميته بعتبات عالم سفلي لرؤية العراق وما يغذي موارد بشرية سهلة الاشتعال لأبسط الأسباب. أضف الى كل ما ذُكر، بما فيه مشهد مقهانا في الديوانية، غياب النساء في غالبية الاحتجاجات والتحولات، وكأنهن يعشن في عالم سفلي ثان يحيطه الصمت والكتمان. قصارى الكلام، إذا لم نتمكن من فهم تركيبة هذا العالم واستيعاب احتياجات أفراده المسحوقين المحرومين، يصعب علينا رسم العراق على خارطة الاستقرار، ذلك ان العالم الفوقي المتمثل بالطبقة السياسية الحاكمة، لا يُظهر سوى افرازات نظام حكم بني على المحاصصة والفساد المنظم.
عن أخبار الآن