كتابة : عماد أحمد
ترجمة: نرمين عثمان محمد
هذه المرة أودّ أن أكتب شيئًا أدمج فيه بين التأمل والذكرى السياسية وقضية المرأة، من خلال الحديث عن سيرة حياة امرأة خانقينية عاشت حياةً قاسية وصعبة( ميم خَنان )* العمة خنان كانت امرأة مسنّة، تعيش وحيدةً في غرفة بعيدة داخل فناء كبير. زوجها الخال سليمان رحل مبكرًا وتركها وحيدة. لا أعرف الكثير عن الخال سليمان ولا أذكره جيدًا، لكن العمةخَنان ما زالت حاضرة في ذاكرتي بوضوح.
كل صباح، عندما تشرق الشمس من وراء بساتين خانقين، كانت العمة خَنان تشعل نار الحطب تحت إبريق نحاسي أسودمجعدٍ تضع فيه الماء ، وإبريقاً آخرمن السيراميك كانت تضع فيه الشاي وتُعدّ شايًا غامقًا ومفتخراً تتناوله مع قطعة خبز يابس. بعدها تتهيأ، وتلبس حذاءها المطاطي، وتضع الحبال على كتفها، متحهةً نحو البساتين الواقعة أسفل حيّ جَلوة لتعمل في الزراعة وتكسب قوتها اليومي.
كانت قصيرة القامة، محدودبة الظهر، تميل بشرتها إلى الحمرة والبياض، نحيلة الجسد، ذات عينين باهتتين وشعرٍ أصفر، أصابعها رفيعة كأغصان القصب، وراحة يدها كانت ثخينةً، تدلَت شفتها العلوية،مما سبب تَتأتُأً في لسانها ، وقد سقطت أسنانها كلها،. كانت تختلف عن نساء حيّ جلوة، لا تربط رأسها بفوطة مزركشة كما يفعلن، بل كانت تغطيه بقطعة قماش بيضاء بسيطة.
مع غروب الشمس، كانت تعود إلى بيتها قبل أذان المغرب، تحمل على ظهرها حزمًا من أغصان يابسة، تقيّمها على ظهرها بالحبل، وتمسك بالحبل بكلتا يديها.
ذات يوم، وبينما كانت تعود مثقلة بالحطب، توقفت لتستند على نخلة مقابل باب الفناء الكبير، حيث كانت النخلة شاهقة بثلاث أو أربع أذرع أعلى من سطح الأرض، فرأيت المشهد بعيني طفلٍ صغيرمهمش، وكان لوحةً نادرة الجمال. ويا للأسف، لم أكن مايكل أنجلو لأحوّل ذلك المشهد إلى لوحة خالدةللأَبَد.
جلست تحت ظلّ النخلة بجانبها، أستمع إلى دقات قلبها و أنفاسها المتعبة، وقلت:لها عمةخَنان، أريد أن أساعدك، دعيني أحمل بعض الحطب عنك، فقالت بصوتٍ مفعمٍ بالعطف وبعينين مليئتين بالحسرة: فديتك يا ولدي الحروك لكنك ما زلت صغيرًا، لا تقدر على حمل هذا الحمل الثقيل، حين تكبر ستجد أعباء أثقل وأكبر من هذا تنتظرك، تعاستكم أنكم وُلدتم في جلوة، وتجاورون خَنان البائسة!
وبعد مدة، رحلت العمة خَنان وحيدة في غرفتها المظلمة إلى الأبد، ودفنها أهالي جلوة المخلصين في مقبرة االسيد عباس. أتذكر أنني تتبعت جثتها الى المقبرة حافي القدمين ، ، داعياً من الله أن يجعلها في الجنة وأن لا يحملها أثقالاًبعد اليوم.
. تأمل سيرة العمة خَنان جعلني أفكر في قضية حقوق المرأة ونضالها، وكما يقول المؤرخون والفلاسفة الاجتماعيون: النظام الأمومي سبق النظام الأبوي، ورغم غياب القوانين والمؤسسات المدنية حينها، فإن العدالة الاجتماعية كانت أرحم لحد ما ،مما هي عليه اليوم، ولم يكن التمييز بين الجنسين بهذا الشكل القاسي، في مرحلة شبابنا، عندما كنا متحمّسين للفكر اليساري، كنا نفتخركثيراً بأسماء مثل روزا لوكسمبورغ، وأنجيلا ديفيس، وجميلة بوحيردالجزائرية، واليوم تغيّر العالم بالتأكيد ، فنحن في خانقين نفتخر بليلى قاسم ووَصفيّة خان، وفي گەرمیان نفتخر بنَازَ دَرَدُوَين وتوبا زەنگەنە، وفي السليمانية بهێرۆخان، وفي أربيل بخانزاد، وفي بادينان بزێڕین ئامێدی ، وعلى مستوى كردستان الكبرى، نفتخر في الشمال بليلى زانا، وفي الجنوب بعادلة خان، وفي الشرق بمستورة الأردلانية، وفي الغرب بالمقاتلات البطلات في كوباني اللواتي حاربن داعش.
لقد أصبحت أوضاع النساء في عصرنا الحالي أفضل بكثير من الماضي، من حيث الحقوق والمشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يعد الوضع كما كان في السابق ، حيث كان التمييز والتهميش هما السائدان ،والاتحاد الوطني الكردستاني، كحزبٍ اشتراكي دولي ، يؤمن إيمانًا راسخًا بحقوق المرأة، ولم يبخل يومًا في دعمها ومساندتها في العملية السياسية والإدارية. يؤمن الحزب إيما ناً مطلقاً بالمقولة الثمينة: (تحرر المجتمع مرهون بتحرر المرأة)وفي هذا السياق،في هذه الأيام، وأثناء الحملة الانتخابية للدورة السادسة لمجلس النواب العراقي، زرتُ لجان التنظيم والمكاتب التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني في حيّ (شيخ محيي الدين)، ذلك الحيّ الذي أختبأت فيه أيامًا في خريف عام 1983 في بيت خالي سعد الله، لأتصل بعد ذلك بالرفاق في جبال قرهداغ حيث كانت معقل الثورة وموقع قبر كاك آرام، سعدتُ كثيرًا حين علمت أن مسؤولة اللجنة امرأة، وأن أغلب أعضاء الهيئة اللواتي حضرن للإجتماع كانوا من النساء، ويعد ذلك دليلاً على أننا ما زلنا نسير على نهج النضال المدني والمسيرة االتي أرسى أسسها الراحل مام جلال، وهذا بحد ذاته بشرى إنتصار حقيقي ، لا سيّما حين أرى كيف تغيّرت حياة المرأة ومكانتها في المجتمع مقارنة بعصر العمة خَنان والآلاف ممن كنّ على شاكلتها، فبرغم الصعوبات والعقبات، تحسّن وضع المرأة إلى حد ملحوظ.
**ميم خَنان :بمعنى العمة أو الخالة خَنان وهي كلمة تستخدم في اللهجة الخانقينة كنوع من الإحترام للنساء المسنات في تلك المدينة سواء كن من الأقارب أو الجارات أو المعارف.