أ.م.د. ژینۆ عبدالله
ثمة لحظات نادرة في مسيرتنا الأكاديمية تجعلنا نتوقف أمام منجز بحثي يُعيد صياغة علاقتنا بتراث القديم. وهذا بالضبط ما شعرت به حين تصفحت كتاب زميلي الأستاذ الدكتور إسماعيل البرزنجي “الخطاب النثري الجاهلي – دراسة أسلوبية”، الذي كان في الأصل أطروحة دكتوراه أشرفت عليها الأستاذة الدكتورة نيان نوشيروان فؤاد مستي في قسم اللغة العربية بكلية اللغات في جامعة السليمانية.
جرأة المنهج
ما أثار اهتمامي في هذا العمل ليس مجرد تناوله للنثر الجاهلي – فهذا موضوع كلاسيكي بامتياز – بل الجرأة المنهجية التي اتسم بها. فالبرزنجي لم يكتفِ بالمناهج التقليدية التي اعتدنا عليها في دراسة النصوص القديمة، بل اختار أن يقارب نصوص النثر الجاهلي بأدوات النقد الأسلوبي المعاصر، وهي مغامرة منهجية محفوفة بالتحديات والإمكانات في آن.
والحق أن أبرز ما يميز هذا الكتاب – في تقديري – هو اقتراحه لمنهج جديد في الأسلوبية لم يُسلك من قبل، وهو “أسلوبية النص”. فبدلاً من الانشغال ببنية الجملة المفردة، كما درج الباحثون، ينتقل البرزنجي إلى دراسة بنية النص الأدبي بوصفه كُلاً متماسكاً، مستكشفاً العلاقات الخفية التي تربط أجزاءه المختلفة.
من الجملة إلى النص
لطالما أزعجني ذلك التشظي الذي تعانيه الدراسات التراثية، حيث نُفتت النص إلى وحدات صغيرة (صوتيات، مفردات، جمل) ثم نغفل عن روحه الكلية. ولعل أهم ما فعله البرزنجي هو رفضه لهذا التجزيء، إذ نظر إلى النص بوصفه “وحدة متصلة” لها بنية عميقة تتجلي في خطاب متماسك.
وقد لفت انتباهي تمييزه الدقيق بين مفهومي “الخطاب” و”النص”، فالأول – في رؤيته – هو البنية الدلالية العميقة، أي استراتيجية القول الخفية (الوجود بالقوة)، بينما النص هو تجليها المادي المنطوق أو المكتوب (الوجود بالفعل). وهذا التمييز الفلسفي يفتح آفاقاً واسعة لفهم كيفية إنتاج المعنى في النصوص القديمة.
رحلة في مستويات النص الثلاثة
قسّم البرزنجي دراسته إلى ثلاثة أقسام رئيسة تتدرج من السطح إلى العمق:
أولاً: المستوى السطحي، حيث درس الظواهر التي تحقق تماسك النص شكلياً عبر الأدوات النحوية والمعجمية. وهنا تجلت براعته في رصد خيوط النسيج اللغوي الخفية.
ثانياً: المستوي الدلالي، وهو القلب النابض للدراسة برأيي، إذ كشف عن التلاحم المعنوي للنص وبنيته الكلية، مؤكداً أن التماسك المعنوي يسبق التماسك الشكلي.
ثالثاً: المستوي التداولي، حيث وضع النص في سياقه التاريخي والاجتماعي، مستكشفاً العلاقة بين المتكلم والمتلقي والظروف المحيطة بإنتاج الخطاب. وهنا برزت استراتيجيات التعاون والإقناع التي اتسم بها الخطاب الجاهلي.
الخطاب الجاهلي
وفي نهاية رحلته البحثية، توصل البرزنجي إلى نتيجة مهمة: أن الخطاب النثري الجاهلي بأنواعه المختلفة يشكل خطاباً متماسكاً له استراتيجيته الخاصة التي تعكس الأوضاع الاجتماعية لذلك العصر، وتكشف عن طريقة تفكير الإنسان الجاهلي ورؤيته للعالم.
وأنا إذ أحيّي هذا الجهد الأكاديمي الرصين، أُجدد تهنئتي لزميلي أ.د. إسماعيل البرزنجي بهذا المنجز القيّم، متمنياً له مزيداً من العطاء والإبداع في مشواره البحثي.
الكتاب: الخطاب النثري الجاهلي (دراسة أسلوبية)
المؤلف: أ.د. إسماعيل البرزنجي
الناشر: مطبعة رينوين، 2018

