قراءة نقدية في عرضٍ جسّد قلق الإنسان المعاصر واحتجاج الجسد الأنثوي في فضاء الشارع
في الفضاء المفتوح الذي يختلط فيه صوت الحياة اليومية بنبض الفن، جاءت مسرحية «عذراء» لتؤكد أن الشارع لم يعد ممرًا للعابرين، بل أصبح فضاءً دراميًا يحتضن الحقيقة بكل تناقضاتها. هذا العرض الذي قُدّم ضمن فعاليات مهرجان مسرح الشارع الدولي في كركوك – الدورة التاسعة مثّل تجربة جمالية وفكرية جريئة، أعادت طرح سؤال المسرح والإنسان في مواجهة القبح والعنف والاغتراب.
منذ اللحظة الأولى، تَدخل “عذراء” إلى الوعي الجمعي للمتفرجين بوصفها صوتًا أنثويًا يتحدى سطوة الواقع. لا تُقدّم البطلة نفسها كشخصية مكتملة الملامح، بل كرمز للبراءة المهددة بالخراب في عالمٍ تتآكل فيه القيم الإنسانية. حضورها الأبيض في ساحة مزدحمة بالمارة يخلق مفارقة بصرية بين الطهر والضجيج، بين النقاء والخراب. وهنا، تتجلى الفكرة المركزية للعرض: كيف يمكن للبراءة أن تعيش في عالمٍ مثخن بالاتهام والعنف، وكيف يمكن للفن أن يدافع عن جوهر الإنسان في مواجهة تشيّؤه المستمر؟
ينطلق العمل من مفهوم “الشارع كمسرح”، أي من كسر الجدار الرابع وتوسيع دائرة التلقي. فالمتفرج هنا ليس كائنًا سلبياً يجلس في ظلام القاعة، بل جزء من المشهد، شاهد ومشارك ومتهم في آن واحد. في هذه المسافة المنفتحة، يُعاد تعريف علاقة الفن بالمجتمع: المسرح يغادر عزلته ليعود إلى الناس، يلامس يومهم، يشاركهم الصراع الداخلي والخارجي. وهذا ما يجعل “عذراء” عرضًا يتجاوز الشكل الأدائي إلى بيانٍ فكريٍ مفتوح حول الوجود والحرية.
من الناحية الجمالية، اعتمد المخرج على اقتصاد الحركة وكثافة الرمز. كانت الجسدات محكومة بدقة عالية، فكل إيماءة تنطق بدلالتها قبل أن تنطق الكلمات. فاليد الممدودة، والنظرة الموجهة نحو السماء، والانحناءة على الأرض، كلها تتحول إلى علامات في لغة بصرية متقشفة ولكن غنية بالمعنى. إن “عذراء” في أدائها الجسدي تشبه صلاةً أو احتجاجًا، فهي تقيم شعائرها في ساحة المدينة لا في معبد مغلق، لتقول إن الطهر ليس خاصًا، بل قضية عامة.
أما من حيث البنية الدرامية، فيبدو العرض أقرب إلى القصيدة المسرحية منه إلى الحكاية التقليدية. لا وجود لتتابع سببي أو تسلسل زمني صارم، بل لوحات متتابعة تتقاطع فيها الأصوات والحركات لتخلق إيقاعًا داخليًا متوترًا. هذه التقنية تُقرب العمل من مسرح الصورة والمسرح الطقسي، حيث يتحول الأداء إلى طقس رمزي تتجسد فيه مفاهيم البراءة والخطيئة والاغتراب.
وتتبدى في العرض أيضًا لغة مزدوجة بين الواقعي والرمزي. فبينما تحضر الملامح اليومية للشارع – الناس، المارة، الأصوات، صخب المكان – نجد في المقابل رموزًا أسطورية تشير إلى البدايات الأولى للإنسان، إلى سقوطه وحنينه للصفاء الأول. وكأن المخرج أراد أن يقول: إن معركتنا المعاصرة هي ذاتها معركة الإنسان منذ الخلق – الدفاع عن النقاء في وجه الشرّ الكامن في العالم.
على المستوى الفكري، تمثل “عذراء” قراءة أنثروبولوجية وجمالية للمجتمع، فهي لا تتحدث عن المرأة فقط بوصفها ضحية، بل بوصفها وعيًا مضادًا. إن البراءة هنا ليست ضعفًا، بل قوة احتجاج، والأنوثة ليست تزيينًا للعرض، بل محورًا فلسفيًا لسؤال الوجود الإنساني. ولذلك يمكن القول إن العمل يقف في توازٍ بين خطابين: خطاب الجسد الذي يطالب بالحرية، وخطاب العقل الذي يبحث عن المعنى.
كما يلمح العرض إلى أزمة القيم في العالم المعاصر؛ فالجمهور المحيط بالمشهد، الواقعي لا المسرحي، يشارك في صنع الدلالة: هل يبقى متفرجًا لم ينحاز إلى البراءة؟ إن هذا السؤال الأخلاقي هو لبّ التجربة كلها. وهنا يكتسب العرض بعدًا جدليًا، إذ يدعو المتلقي إلى مراجعة ذاته، وإعادة التفكير في علاقته بالآخر وبالعالم.
من الجانب التقني، يبرز الاشتغال الذكي على الإيقاع والموسيقى الحية التي توازي الصمت أحيانًا وتكسره أحيانًا أخرى، مما يخلق توازنًا بين التعبير الجسدي والصوتي. كما كان لاختيار الأزياء البيضاء والإضاءة الطبيعية حضور رمزي يعمّق ثيمة النقاء المهدد. كل ذلك جعل من “عذراء” نصًا بصريًا مفتوحًا يمكن قراءته من زوايا متعددة: سياسية، اجتماعية، نفسية، وجمالية.
لقد استطاع العمل أن يفتح أفقًا جديدًا لمسرح الشارع في العراق، متجاوزًا حدود الترفيه أو التوعية المباشرة، نحو تجربة وجودية تجمع بين الفن والفكر. فهو مسرح ينتمي إلى الناس ولكنه يطمح لتجاوز اليومي نحو الكوني، يشتبك مع الواقع ليصنع منه مرآة رمزية لما نعيشه جميعًا.
وفي الختام، يمكن القول إن “عذراء” ليست مجرد عرض مسرحي عابر، بل صرخة فنية وفلسفية في وجه العالم، حيث تتحول البراءة إلى سلاح جمالي، والشارع إلى مسرحٍ يعيد إلينا معنى الحياة وسط صخب الواقع. إنها تجربة تؤكد أن المسرح لا يزال قادرًا على طرح الأسئلة الكبرى، وأن الفن حين يخرج من القاعة إلى الساحة، إنما يعود إلى أصله الأول: أن يكون صوت الإنسان في معركته من أجل أن يبقى إنسانًا.
المهرجان وإحياء روح المسرح المفتوح
يُعد مهرجان مسرح الشارع الدولي في كركوك من التجارب الريادية التي أعادت للمسرح العراقي حضوره في الحياة العامة، إذ فتح أبوابه أمام عروض من مدارس واتجاهات متعددة، مزجت بين الأداء الطقسي، والمسرح التفاعلي، والفنون البصرية. وقد أسهمت هذه الفعالية في جعل المدينة فضاءً ثقافيًا نابضًا، يربط الفن بالناس ويمنح الجمهور فرصةً للمشاركة في الفعل المسرحي لا مجرد مشاهدته. ومن هذا الأفق، كانت “عذراء” واحدة من العلامات الفارقة في دورةٍ أثبتت أن مسرح الشارع لا يزال أكثر أشكال المسرح حيويةً وصدقًا.

