عباس عبدالرزاق
لم تعد سوريا، بعد عقدٍ من الحرب والانقسام، مجرّد ملفّ إقليمي، بل تحوّلت إلى محور رئيسي في هندسة التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط.
ففي الوقت الذي أعادت فيه واشنطن رسم أولوياتها الإستراتيجية، بدأت دمشق تستعيد تدريجيًا موقعها ضمن شبكة التحالفات الدولية، بما في ذلك الحوار غير المباشر مع الغرب، والحديث عن اتفاق أمني مرتقب مع إسرائيل، ما يشير إلى تحوّل جذري في مسار الأزمة السورية.
يصف مراقبون هذه المرحلة بأنها “ما بعد الجغرافيا السياسية الكلاسيكية”، حيث لم تعد خطوط النفوذ تُرسم على الورق، بل من خلال اتفاقيات أمنية واقتصادية مرنة يعاد عبرها توزيع مراكز القوة.
التموضع الأمريكي:
من الانكفاء إلى إعادة السيطرة الناعمة
يقول محللون في واشنطن إنّ السياسة الأمريكية تجاه سوريا انتقلت من مقاربة “إدارة الأزمة” إلى إعادة هندسة النفوذ. فبعد سنوات من الغياب الميداني النسبي، تعمل الولايات المتحدة على تحويل سوريا إلى منصّة سياسية وأمنية لإعادة تموضعها في المنطقة، وذلك عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
- محاربة الإرهاب وإعادة تنشيط التحالف الدولي في الشمال السوري.
- دمج سوريا تدريجياً في منظومة “اتفاقيات أبراهام” من خلال تفاهمات أمنية مع إسرائيل.
- تحييد النفوذ الإيراني وتقليص اعتماده على الممر السوري – اللبناني.
ويُجمع عدد من الخبراء الغربيين على أن هذا المسار يُشبه — شكلاً ومضموناً — مشروع إعادة ترسيم ناعم للمنطقة، شبيه بـ سايكس – بيكو جديدة، ولكن بأدوات دبلوماسية وتحالفات اقتصادية لا بخطوط استعمارية.
الرهان الأمريكي يحمل فرصاً ومخاطر
في حديثٍ خاص أدلى به لقناة إقليمية، يرى الدكتور سمير فقی الباحث في الشؤون الاستراتيجية أن هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل هو نتاج تراكمات طويلة:
( لقد جرى التحضير لهذا المسار منذ سنوات. الرهان اليوم على تحويل سوريا من ساحة صراع إلى نقطة توازن داخل التحالف الغربي. لكن هذا الرهان محفوف بالمخاطر، لأنه يقوم على إعادة تعريف موقع سوريا دون ضمان وحدة القرار الداخلي. )
ويضيف:
( الولايات المتحدة لا تريد سوريا منهارة، لكنها تريدها دولة قابلة للتوجيه. تسعى إلى إقامة نموذج مدني شكلي، مع محاسبة انتقائية للجرائم، بما يحافظ على النفوذ الغربي دون كلفة عسكرية مباشرة. )
الوجود الأمريكي
في الميدان بين النفي والواقع
ينفي البنتاغون رسميًا وجود قواعد جديدة في سوريا، لكن مصادر دبلوماسية أوروبية تؤكد أن هناك نشاطاً عسكرياً محدوداً بالقرب من تمشوه، في إطار مراقبة تفاهم أمني قيد التفاوض بين دمشق وتل أبيب.
ويعلّق الدكتور سمير على هذه المفارقة قائلاً:
( الولايات المتحدة تنكر الوجود، لكنها تفرض الوقائع. كما حدث في العراق، تنفي واشنطن القواعد الدائمة، لكنها تدير الأجواء، تحدد مسارات الطيران، وتعقد التحالفات الميدانية مع القوى المحلية. )
انعكاسات إقليمية متوقعة
يرى المحللون الدوليون أن أي اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل حتى لو كان جزئياً سيحدث تصدّعات في منظومة التحالفات الإقليمية:
إيران: ستخسر جزءاً من عمقها الاستراتيجي، وتواجه تحدياً في استمرار وجودها العسكري بسوريا.
تركيا: ستتعامل بحذر مع الترتيبات الأمريكية الجديدة خشية تأثيرها على الملف الكردي.
لبنان: سيتأثر مباشرة عبر تقليص هوامش حركة حزب الله، وهو ما قد يعيد خلط الأوراق داخلياً.
العراق: سيكون بوابة جديدة للنفوذ الأمريكي، تحت عنوان التنسيق الحدودي ومكافحة الإرهاب.
وتصف مراكز أبحاث أوروبية هذه المرحلة بأنها بداية “توازن إقليمي مرن”، تُدار فيه الصراعات عبر الاتفاقيات لا الحروب، ولكنها تظلّ محفوفة بالهشاشة السياسية.
الآفاق المستقبلية:
ثلاث مسارات أمام دمشق
يُحدّد الدكتور سمير ثلاثة سيناريوهات لمستقبل سوريا خلال العقد القادم:
- الاستقرار المشروط: اندماج تدريجي في النظام الدولي مقابل إصلاحات محدودة.
- الجمود الطويل: استمرار مناطق النفوذ وتعدد المرجعيات.
- سوريا الجديدة: تحول حقيقي نحو الدولة المدنية الوطنية المستقلة.
ويختم بالقول:
( سوريا أمام فرصة تاريخية، لكن الخطر الأكبر أن تُختزل السيادة في توازنات الخارج. المستقبل مرهون بقدرة السوريين على بناء مشروع وطني جامع يتجاوز منطق الحرب والوصاية. )
مرحلة ما بعد الصراع
في ضوء التغيّرات الجارية، يبدو أن سوريا تدخل حقبة ما بعد الحرب، ولكن قبل السلام.
فالمشهد الإقليمي يعاد تشكيله، والرهانات الأمريكية تتقاطع مع مصالح إقليمية متضاربة، بينما تبقى دمشق — رغم ضعفها النسبي — الرقم الأكثر حساسية في معادلة الشرق الأوسط الجديد.
كما يقول أحد المحللين الأوروبيين في تقرير لـ The Atlantic:
( كلّ التحولات في المنطقة تبدأ من دمشق، لكن لا شيء ينتهي عندها. )

