*شون أوغرايدي
تتمتع قيمتا المصالحة والتسامح بأهمية محورية في توصيف وظيفة الملكة إليزابيث الثانية، حتى إنها تكاد تندرج في صفوف المتنبهين للتحيز والتمييز العرقي.
وعلى الرغم من أن كل ما تفعله، في الواقع، طبعاً، يتمثل في القبول والترويج لمجتمعات التعددية الثقافية والعرقية الذي آلت إليه مجتمعات المملكة المتحدة ودول الكومنولث، ما يتناقض بشكل حاد مع الإصرار على المشهدية التي تتسم بتسيد نمط أحادي متجانس “على عكس التعددية” التي كانت موجودة في عام 1952 (مع الاستثناء المزعج لدولة “اتحاد جنوب أفريقيا” التابعة للإمبراطورية البريطانية التي كانت في تلك الفترة تمر بمرحلة الفصل العنصري). “المشهدية الأحادية كانت تستند إلى صورة الديمقراطية والمساواة، التي يفترض أنها تتناقض مع التمييز العنصري الممارس آنذاك في جنوب أفريقيا”.
كذلك تفعل الملكة تفعل الشيء الصحيح وبالطريقة الصحيحة، بشكل عام، خصوصاً مع مرور الزمن. وقد عوضت الكاريزما التي تتمتع بها جزئياً عن خسارة بريطانيا وضعها كإمبراطورية وتراجع قوتها في العالم. واستطاعت استخدام موقعها من أجل مساعدة وزرائها وتعزيز المصالح البريطانية، ولا سيما في التعبير عن المصالحة وقيادة الجهود الرامية إلى تحقيقها.
ومثلاً، زارت الملكة بعد عقدين من نهاية الحرب، الدولة التي كانت آنذاك ألمانيا الغربية من أجل إظهار أنه لم يكن هناك ضغينة متبقية من زمن قصف سلاح الجو الألماني قصر باكينغهام، وقد أخطأت قذائفه والدها ببضع ياردات فلم تقتله (بالطبع، وفر ذلك للملك والملكة نصراً دعائياً ضخماً أثناء جولاتهما على الأحياء التي تعرضت للقصف في الوقت نفسه، وقد أمكن التعبير عن ذلك بعبارة “في الأقل، نستطيع أن ننظر إلى الطرف الشرقي ونحدق في الوجوه مباشرة، من دون حرج”).
وبعد سنوات قليلة، حين كان الغضب لا يزال متأججاً من اليابان، استضافت الملكة إمبراطور اليابان هيرو هيتو، في سياق زيارة دولة. وفي السنوات الأخيرة، شكلت زيارتها إلى إيرلندا في عام 2011 نجاحاً مميزاً، وتوجهت فيها “إلى الإيرلنديين” بعبارات رقيقة بشكل خاص أوحت بالاعتذار لهم، من دون أن تذكر ذلك بالاسم.
وآنذاك، أوردت الملكة أن “هذه الحوادث أثرت فينا جميعاً، وفي عديدين منا بشكل شخصي، وهي إرث مؤلم. لا نستطيع إطلاقاً أن ننسى هؤلاء الذين ماتوا أو الذين أصيبوا بأضرار، أو ننسى عائلاتهم. وأعرب إلى جميع هؤلاء الذين عانوا نتيجة لماضينا المضطرب، عن أفكاري الصادقة وتعاطفي العميق. وبفضل الاسترجاع التاريخي للحوادث، يمكننا جميعاً أن نرى الأشياء التي كنا نتمنى لو أنها جرت بشكل مختلف، أو لو أنها لم تقع على الإطلاق، لكن من الصحيح أيضاً أنه لم يكن بإمكان أحد ممن تطلعوا إلى المستقبل على امتداد القرون الماضية، أن يتخيل قوة الوشائج التي تجمع حالياً بين حكومتي بلدينا وشعبيهما، وروح الشراكة التي نتمتع بها الآن والعلاقة المتينة الدائمة بيننا”.
مرة أخرى، من الصعب النظر إلى هذه الكلمات من دون الشعور بعدم الارتياح عند تأمل الوضع الراهن في جزيرة إيرلندا.
وربما لم يكن من قبيل الصدفة أن الملكة اختارت مدينة “ليستر” البارزة على مستوى التعدد الثقافي، لبدء جولتها بمناسبة يوبيلها الذهبي في عام 2012، وقد حرصت دائماً على إشراك قادة المجموعات الدينية والثقافية الأخرى في المناسبات الوطنية بما في ذلك مراسيم احتفالات نصب الشهداء التذكاري السنوية.
وكذلك بدت جريئة في خطابها الخاص الذي ألقته أمام البرلمان في عام 2002، ولم يكن ذلك هو خطاب الملكة التقليدي الذي يكتبه وزراؤها لها، إذ أوردت “إن تعزيز مجتمعنا الغني بالتعددية الثقافية والتعددية الدينية، وهو تطور رئيس منذ عام 1952، يجري بشكل سلمي لافت، وبقدر كبير من حسن النية”. وفي عام 2004، ضاعفت التزامها بذلك الملمح التعددي، وذهبت إلى حد الإعلان عن أنه “هنالك بالتأكيد كثير مما ينبغي فعله، وتحديات متعددة يجب التغلب عليها. لا يزال التمييز موجوداً. ويشعر بعض الناس أن معتقداتهم الخاصة تتعرض للتهديد. وفي المقابل، لا يحس البعض بالرضا عن الثقافات غير المألوفة”.
وتابعت، “إنهم جميعاً في حاجة إلى الاطمئنان بأن هناك كثيراً مما يمكن كسبه من خلال التواصل مع الآخرين، وأن التنوع هو في الحقيقة قوة وليس تهديداً”.
وأضافت الملكة، “نحن نحتاج أيضاً إلى إدراك أن التقدم السلمي والمطرد في مجتمعنا المؤلف من ثقافات وموروثات مختلفة، يمكن أن يتعرض للتهديد في أي لحظة من خلال أفعال المتطرفين في الداخل، أو عبر الحوادث في الخارج. لا يمكننا بالتأكيد أن نشعر بالرضا عن أنفسنا على الإطلاق”.
إنها من المتنبهين للتحيز والتمييز العرقي، أليس كذلك؟ نسمع من وقت لآخر تلميحات حول سياستها. ويمكن أن نستعيد أحد من استمعوا إليها، وهو توني بن الذي يعتبر واحداً من الاشتراكيين النادرين ضمن مجمل “حكوماتها” العمالية “بمعنى الحكومات التي ترأسها حزب العمال في عهدها”، إذ خلص بعد عودته من مقابلة رسمية معها إلى أنها امرأة أرستقراطية نموذجية بالنسبة إلى جيلها، معتبراً أنها مؤيدة معتدلة و”بشكل ضئيل” لحزب المحافظين. ويبدو أن رئيسي الوزراء اللذين تفضلهما كانا ونستون تشرشل وهارولد ويلسون “رئيس وزراء من حزب العمال، قاد حكومتين عماليتين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، لكنه أرستوقراطي وحمل لقب بارون”. كذلك ذكرت صحيفة “صنداي تايمز” أنها اختلفت مع مارغريت تاتشر حول سياسات “تسبب الانقسام” طبقتها في ثمانينيات القرن الماضي. (ويبدو أن كلاً منهما قد حيرت الأخرى، لكنهما توافقتا على الرغم من “الخلافات المتعلقة بالسياسات” حول إضراب عمال مناجم الفحم وعقوبات دول الكومنولث على جنوب أفريقيا).
في المقابل، إن المجال الوحيد الذي لا يبدو أن بمقدورها السيطرة على رسائلها بشأنه هو الاستقلال الاسكتلندي. وأثناء الاستفتاء الأخير على ذلك الاستقلال، أخبرت الملكة أحد أصحاب التمنيات الطيبة أن على الناس أن “يفكروا ملياً” في تصويتهم. وفي عشاء اليوبيل الفضي في عام 1977، وفيما كان شعار “أنه نفط اسكتلندا” يتردد في كل الأرجاء، تسببت الملكة بانزعاج غير عادي من خلال قولها بشيء من التحدي الخفيف، “لا أستطيع أن أنسى أنني قد توجت ملكة على المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية. ولعل هذا اليوبيل هو الوقت المناسب لتذكير أنفسنا بالفوائد التي منحها الاتحاد، في الداخل وفي تعاملاتنا الدولية، إلى سكان أجزاء هذه المملكة المتحدة كلها”.
ولم ترتكب الملكة أي خطأ بخلاف ذلك، وبقيت بعيدة من دون أن تتدخل في الأمور أطول فترة ممكنة، خلال الأزمات، والبرلمانات المعلقة “تلك التي لا يفوز فيها أي حزب بالغالبية”، وفي الأيام التي توجب عليها أن تختار رئيس وزراء محافظاً جديداً (قبل أن تصبح لديهم انتخابات الزعامة المزعجة هذه).
إن الملكة موجودة في كل مكان إلى درجة أننا كنا على الدوام عرضة لخطر اعتبارها أمراً مفروغاً منه، إلا أن كونها مألوفة باتت مفهوماً يضاف إلى فكرة أننا “نعرفها”، حتى أنني سمعت في هذا الأسبوع، أن بعض الناس يعتبرونها كجدتهم.
في ملمح آخر، لا تتغير الملكة من حيث المظهر والعادات، حتى حينما تتأقلم بشكل ثابت مع التغيير وتقبله. وكانت الطقوس السنوية إلى وقت قريب، لا تتبدل، وهي في أغلبها طقوس يعرفها أسلافها على غرار اللقاء الملكي المعروف باسم “رويال أسكوت” “الاسم مشتق من وشاح رقبة عريض ملكي الطابع. ويتضمن الحدث اجتماعات تستمر أربعة أيام، ومنافسة رياضية”، والافتتاح الرسمي للبرلمان، وخميس الأسرار، والإقامة الدورية في “قصور” “بالمورال”، و”ويندسور”، و”ساندرينغهام”، وصيد الطيور البرية، وأحد الذكرى، وكلمة عيد الميلاد التي تبث “تلفزيونياً وإذاعياً بثاً حياً”، والزيارات الخارجية. وقد بقيت تسريحة شعرها على حالها منذ 1960. وكانت كلاب الـ”كورغيز” موجودة معها منذ أربعينيات القرن العشرين. وكذلك تظهر الملكة على الطوابع البريدية وقطع النقود، والأوراق النقدية. وقد جرى الاحتفال بها بشكل غير مألوف وغرائبي في الأغنية الشهيرة لفرقة “ذا جام” في عام 1978، التي تقول “في أسفل محطة قطارات الأنفاق في منتصف الليل” (…) “بحثت عن فكة ثم سحبت الملكة/ مبتسمة، مخادعة” “إشارة إلى وجود صورتها على قطع النقود”.
ومع ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية يتمثل في فهمها الفطري بأن الملكية تحكم بإذن من الشعب وليس العكس. إن الأمر يحتاج إلى قليل من التواضع. وبعد وفاة ديانا، والاحتفال باليوبيل الذهبي لذكرى زواجها هي في عام 1997، قدمت إلى توني بلير وللبلاد على نطاق أوسع، مجموعة من الأفكار. وقد تضمنت أفكارها أنه “على الرغم من الفارق الدستوري الكبير بين الملكية الوراثية والحكومة المنتخبة، فإن الفجوة بينهما في الواقع ليست واسعة إلى هذا الحد. إنهما مؤسستان تكملان بعضهما بعضاً، ولكل منهما دورها الذي تؤديه. وكل منهما لا توجد، بطريقتها الخاصة، إلا بدعم الشعب وموافقته. يجري التعبير عن تلك الموافقة، أو عدمها، بالنسبة إليك يا رئيس الوزراء، من خلال صندوق الاقتراع. إنه نظام قاسٍ، حتى إنه وحشي، لكنه يشكل في الأقل، رسالة واضحة يقرأها الجميع”.
وتابعت، “لكن، بالنسبة إلينا، نحن العائلة المالكة، غالباً ما تكون الرسالة أصعب على القراءة، بل تأتي غامضة عبر الاحترام، أو الخطاب، أو التيارات المتضاربة في الرأي العام، لكن قراءتها إلزامية بالنسبة إلينا. لقد فعلت ما بوسعي، يدعمني حب الأمير فيليب وعونه الدائمين، من أجل تفسيرها بشكل صحيح على امتداد سنوات زواجنا وخلال عهدي كملكتكم. ونحن سنحاول، كعائلة، أن نفعل ذلك في المستقبل”.
إن كلمة “وحشي” صحيحة، وكذلك توجب عليها أن تكون وحشية في استجابتها إلى ضغوط الرأي العام. وحين رغبت أختها بالزواج من كابتن المجموعة “الطيار” بيتر تاونسيند، وكان رجلاً مطلقاً، في خمسينيات القرن العشرين، كان الأمر عبارة عن قصة مثيرة قسمت البلاد. وقد أخبرت الملكة أختها مارغريت أنه يمكنها المضي قدماً لكنها ستفقد مكانتها الملكية. واستمرت مارغريت في وضعيتها الملكية، بدلاً من المضي في ذلك الزواج.
وبعد وقت طويل، وفي شأن أمر أكثر خطورة مثلته حالة الأمير أندرو، الذي يقال على نطاق واسع إنه ابنها المفضل، وهي بالتأكيد أنفقت المال، و”رأسمال سياسي” في محاولة منها لإنقاذه من نفسه في أعقاب المزاعم المروعة التي تمخضت عنها فضيحة جيفري ابشتاين “أساسها التحرش الجنسي”. ولعلها ذهبت إلى حد بعيد في ذلك الوقت، لكنها في نهاية المطاف عمدت إلى حرمانه “من وضعيته الملكية”، وجردته من ألقابه بما فيها “صاحب السمو الملكي”. يبدو هذا سخيفاً بالنسبة إلى من لا يستطيع منا أن يستمتع بتقاعد مريح للغاية (حتى ضمن مستوى متواضع مادياً)، ولكن في عالمها المملوء بالميداليات والأوسمة والإطراء الذي لا معنى له، لا بد أنه قد ألحق ضرراً بها أيضاً.
وبالتالي، يستخلص من مشكلة الأمير أندرو أيضاً درس آخر. حين لم تسر الأمور بشكل جيد بالنسبة إلى الملكة على امتداد عقود من الزمن، يكون أفراد عائلتها هم السبب في ذلك غالباً. خاض ثلاثة من أولادها الأربعة تجربة الطلاق، وفق ما فعلت ذلك أيضاً أختها مارغريت التي كانت امرأة حاولت إقامة توازن بين البروتوكول والحفلات الاجتماعية، وفشلت.
وطلباً للاختصار، يمكننا أيضاً أن نستعمل عبارات موجزة في وصف سلسة الحوادث الأخرى التي غالباً ما خربت السلام الذي تشعر به الملكة، بما في ذلك علاقات تشارلز الغرامية، وعلاقات ديانا الغرامية، والحرب العلنية بين تشارلز وديانا، ومقابلة بشير التلفزيونية “سكويد غيت” “مكالمات هاتفية بين الأميرة ديانا وصديق حميم نشرتها صحيفة “صن””، وحلقة “إنها ضربة قاضية ملكية” “نشاط خيري حصل لمرة واحدة ونقله التلفزيون”، وزلات الأمير فيليب، وبذخ الملكة الأم وديونها بسبب القمار، والتنصت الهاتفي (وهذا ليس خطأها بالطبع)، ووقاحة آن، وتنحي إدوارد من سلاح المشاة البحرية الملكية و”ميغ إكزيت” “مصطلح يستخدمه الإعلام البريطاني في وصف خروج الأمير هاري وزوجته ميغان، من الوسط الملكي”. لقد رسم رولف هاريس صورتها، وكذلك اعتنى جاسوس روسي هو السير أنتوني بلانت بصورها. ونظم شعراء البلاط لديها بعض الأبيات الفظيعة، وحاول المصورون أن يلتقطوا لها صورة وهي متجهمة، وهو أمر حصل بوتيرة مدهشة. كان هناك أيضاً مزيد من الحوادث الثانوية للغاية إلى درجة أنها غابت عن الذاكرة.
لقد نجت الملكة من كل هذه المآزق والفضائح لأنه مهما حصل كانت محاكمتها عادة تجري من جانب الشعب (ضمن مدى اهتمام أي شخص بذلك فعلاً).
لقد قبلت بعض الانتقادات مباشرة. ومثلاً، تعرضت في وقت مبكر من عهدها، في عام 1958، مع بلاطها الـ” تويدي” “التقليدي بشدة والريفي” الخانق، إلى الانتقاد من قبل جون غريك (المعروف أيضاً باسم لورد ألترنيشام)، لكونهما بعيدين من أرض الواقع، ووصفت تصريحاتها العامة بأنها “مزعجة للغاية”. كذلك أدت تلك التصريحات إلى وصف الملكة بأن “الشخصية التي تعبر عنها هذه الأقوال التي تنسب إليها، هي أقوال تلميذة متزمتة، قائدة فريق الهوكي، وتلميذ يسند إليه أن يكون عريف الصف، ومرشح حديث للتثبيت “طقس تأكيد الديانة المسيحية بعد العمادة”. إذاً، ليس الأمر أنه سيجري تمكينها كي تكون مفيدة وناجحة تماماً كشخصية مستقلة ومتميزة”.
ثمة حادث بات منسياً الآن، وقد تسبب بعاصفة ضخمة في وقت حصوله، بيد أنه كان ينم عن نية حسنة. وفي الواقع، جرى بعده بفترة قصيرة إلغاء العادة القديمة المتمثلة في تقديم “المبتدئات” “من الطبقة العليا” إلى جلالة الملكة، وبالنظر إلى الأمر الآن بعد مرور كل هذا الوقت، يمكن استنتاج أنها أخذت نصيحته “لورد ألترنيشام” على محمل الجد.
ووفق كلماته، “حينما يذبل شبابها، ستعتمد سمعة الملكة على أشياء أكثر بكثير من التي تستند إليها اليوم “أي” على شخصيتها. ولن يكون كافياً بالنسبة إليها أن تؤدي عملها بشكل أوتوماتيكي من دون حماسة، بل سيتعين عليها أن تنطق بأشياء يمكن للناس تذكرها، وأن تفعل أشياء انطلاقاً من مبادرتها الخاصة ستجعل الناس يقفون وينتبهون.
وحتى الآن، هنالك القليل مما يدل على أن شخصيتها تلك آخذة في الظهور مع الزمن. إلا أن الوقت، على الرغم من أنه لم يعد في مصلحتها بشكل واضح، فإنه لم يصبح بعد عدوها”.
ولقد تعاملت الملكة أيضاً مع الهجمات المتواصلة على نمط الحياة المدعوم الذي تعيشه عائلتها، خصوصاً من قبل النائب العمالي ويلي هاميلتون (الذي دعاها “دمية الساعة”)، وكذلك وضع دبوس أمان في أنفها في عمل فني لفرقة “سيكس بيستولس”، وتعرضت للسخرية من جانب مجلة “برايفت آي” التي أطلقت عليها اسم “بريندا” “مستمد من فيلم وثائقي عن العائلة المالكة”، وتطفل إعلامي مستمر، والإصابة أخيراً بكورونا، وخضعت لعمليات جراحية بسيطة، وصنع برنامج ” سبيتينغ إيميجيز” التلفزيوني الساخر، دمية تمثلها تصدر أصواتاً حادة، وظهرت كأنها تقفز من طائرة مروحية مع جيمس بوند في افتتاح الألعاب الأوليمبية في لندن عام 2012 (وهي حركة خطيرة لكنها رابحة)، وكتب الآن بينيت مسرحية عنها لشركة “نتفليكس”، وأدت شخصيتها الممثلات برونيلا سكاليس وهيلن مارين وأوليفيا كولمان وكلير فوي والممثل الكوميدي ستانلي باكستر.
واستطراداً، لعلها تفكر بأنها قد بالغت في الانفتاح بشأن فيلم “العائلة المالكة” الوثائقي الذي أعدته “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) بأسلوب “ذبابة على الجدار” عام 1969، حيث شوهدوا وهم يشوون النقانق ويشاهدون التلفزيون بطريقة غير واقعية (أشارت مارغريت إلى أنهم عادة ما يشاهدون التلفزيون في قصورهم الخاصة). ولم تجرِ إعادة بثه بشكل كامل على الإطلاق، مع أنه عديم الضرر. ونجحت الملكة أيضاً بشكل ما في تجاوز الكشف عن أنها مؤيدة غير متوقعة قديمة العهد لفريق نادي أرسنال لكرة القدم في البلاد التي لا تزال فيها كرة القدم تعتبر شأناً قبائلياً.
في سياق متصل، برز مثل يثير الفضول متمثلاً في زيارتها إلى حدائق “دوغري” في “مجمع غرايغديل العقاري” بغلاسكو، في عام 1999، حيث التقت، بشكل عشوائي تقريباً، السيدة سوزان ماكارون، التي قدمت لها الشاي والبسكويت. وعلى الرغم من أنها كانت تخالط ماكارون، فإن الملكة رفضت أن تأخذ منها قطعة بسكويت من نوع “هوبنوب ماكفيتي” حقيقية. وقالت ماكارون “لقد سارت الأمور على ما يرام. لم أكن متوترة أبداً. وكانت تسأل عن البيت وكم هي المدة التي عشتها فيه، وأين عشت قبل ذلك. لقد وجدت أنه يسهل التحدث معها”. ويعتقد البعض أن الصورة التي يقدمها الإعلام للسيدتين تمثل “ملكية آخذة في التدهور ومنفصلة عن الواقع”، وكذلك وصفت تلك الصورة بأنها “إحدى أهم تحف العهد الإليزابيثي” “امتد بين النصف الثاني من القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، أثناء حكم الملكة إليزابيث”. وأوضح القصر الملكي أن تلك كانت “أولى زياراتها الأكثر حميمية التي التقت فيها الناس”. وقد ثبت أيضاً أنها كانت الأخيرة.
في صورة عامة، يبدو أن كل من يلتقيها قد استمتع بلقائها، وسره أن يثرثر عن ذلك، أياً كان هذا الشخص. ومثلاً، سجل ريتشارد كروسمان، وهو الوزير العمالي اللاذع الذي يكتب اليوميات بنهم، اللقاء التالي النابض بالحياة معها في يوليو (تموز) 1968، بعد اجتماع مجلس الملكة الخاص.
وبحسب كروسمان، “كانت الملكة في وضع رائع. وبعد اجتماع المجلس، حين دارت كؤوس الشراب، بدأت تشرح لي برنامجاً تلفزيونياً شاهدته وكان مباراة في المصارعة. لقد ألقي المصارع من فوق الحبال، وسقط على قدميه، وبعد أن تلوى من الألم قفز ثانية إلى الحلبة، ليقبض على منافسه ويجبره على الانسحاب (…). كان من المثير للاهتمام سماع الوصف الحيوي الذي قدمته للمشهد بأكمله، وهي تتلوى، وتلف وتدور بنفسها، بارتياح تام. لقد كانت رؤية مدى استمتاعها بذلك بالنسبة إليَّ مفاجأة لأنها تعلم كثيراً عنها “الملكة”. وفي ما بعد، أجرى كل واحد من الوزراء محادثة طويلة معها على انفراد، قبل أن نغادر جميعاً”.
إن البريطانيين، أو كثيرين منهم في الأقل، مهووسون بأبسط التفاصيل عن عاداتها الشخصية، على غرار الكيفية التي تفضلها في تناول شراب الشاي المفضل لديها (من نوع “إيرل غراي”، أوراق فرط غير معبأة في أكياس، والحليب في النهاية)، ومن أين تشتري ثيابها الداخلية (من “ريغبي أند بيللر”، حتى كشفوا عن سر حمالة الصدر الملكية)، ولونها المفضل (أزرق، وهي تكره البيج). إنه أيضاً أحد ثوابت عهدها.
وسواء دل ذلك الاهتمام والترويج المستمرين على خبث أو رقة إحساس، فإنهما قد ساعداها على أن تصبح سلاحاً خارقاً كـ”قوة ناعمة” بريطانية. وهذا شيء يبدو أن البلاد تحبه، وهو إحدى الثروات العالمية النادرة لـ”بريطانيا العالمية” “بحسب تسمية بوريس جونسون البلاد بعد بريكست”.
ولقد كانت محظوظة أيضاً في كتاب سيرتها الذاتية من ريتشارد ديمبلبي إلى روبرت لاسي وبن بيملوت وأندرو مار، الذين ساعدوا أيضاً في ترسيخ صورة نموذجية عن الملك الدستوري. وبينما يعود تاريخها بوضوح إلى عصر الاحترام الذي انتهى منذ زمن طويل وإلى فجر عهدها، حينما سادت رغبة بحدوث عصر إليزابيثي ثان، وكان الناس يعتقدون حقاً أنها قد اختيرت بنعمة من الله “إشارة إلى فكرة قديمة تنسب حكم الملوك في الغرب إلى نوع من القدر الإلهي”.
انتهى كتاب ديمبلبي المتملق إلى حد ما ببعض التزويق الرومانسي والشاعري، وهو من النوع الاستشرافي الذي يستحوذ على الإحساس الدائم بأن الملك لا يحكم إلا بالطريقة التي يمليها الناس عليه.
وأورد ديمبلبي في خاتمته “لقد كتب “الشاعر” درايدن أن الملوك لا يمكنهم أن يحكموا إلا بقدر ما يعطيه رعاياهم”.
وحينما كانت لا تزال الأميرة إليزابيث “قبل أن تصير الملكة الحالية”، فإن الملكة قد أوضحت أنها قطعت على نفسها عهداً في عيد ميلادها الحادي والعشرين، تمثل بالتفاني في خدمتنا و”العائلة الإمبراطورية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً”. وأوضحت أن ذلك التعهد لن يغدو ممكناً إلا إذا شارك فيه الناس أنفسهم. ينبغي أن يجد عرشها أساسه في قلوب الرعايا كي تستطيع تحمل عبء الملكية، وأن يكون لوظائفها كملكة قيمة حقيقية وعملية. إذن، فليكن الأمر كذلك.
*صحيفة “الاندبندنت”
*مساعد رئيس التحرير