نزار البزاز – دهوك
تتناول هذه الدراسة التحليلية سيرة الشاعر والكاتب والمترجم الكردي بدل رفو المزوري بوصفه نموذجاً للمثقف العابر للثقافات، الذي جمع مابين الشعر والترجمة وأدب الرحلات ليؤسس خطاباً إنسانياً يتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية، وتسعى إلى تحليل ملامح التجربة الجمالية والفكرية لديه، من خلال محورين رئيسيين: الهوية في المنفى والإنسان في نص ادب الرحلات والشعر، مع إضاءة على خصوصية لغته بوصفها أداة تواصل إنساني وجمالي.
يمثل بدل رفو المزوري أحد أبرز الأصوات الكردية المعاصرة التي أسهمت في نقل الأدب الكردي إلى فضاءات عربية وعالمية أوسع. وُلد عام 1960 في مدينة دهوك في كردستان العراق، وعاش طفولته وشبابه في مدينة الموصل وتخرّج من جامعة بغداد ، كلية الاداب قسم اللغة الروسية 1985، ليبدأ مساراً أدبياً متنوعاً جمع فيه مابين الشعر والترجمة وأدب الرحلات والصحافة الثقافية.

يُعدّ بدل رفو نموذجاً للمثقف الكردي (الأممي)، إذ يعيش منذ التسعينيات في النمسا، ويُنتج نصوصاً تنتمي إلى (المنفى الخلّاق)، حيث تتحوّل الغربة إلى مصدر إلهام معرفي وإنساني.
أولاً: البنية الفكرية والهوية الثقافية
تتأسس رؤية بدل رفو على قناعة جوهرية بأن الأدب فعل إنساني يتجاوز الانتماء القومي الضيق دون أن يتنكر له. في مقالاته وحواراته، يُصرّ على أن الشاعر (ابن الأرض والإنسان)، وأن الهوية الكردية بالنسبة إليه ليست شعاراً بل ذاكرة سردية تستمد قوتها من التاريخ والجغرافيا واللغة.
يمكن قراءة تجربته ، حيث يُعيد رفو تعريف ذاته من خلال التفاعل مع الآخر. فهو لا يكتب عن كردستان بوصفها جغرافيا مغلقة، بل بوصفها رمزاً للبحث عن العدالة والحرية والكرامة الإنساني،
وتتجلى هذه الرؤية في شعره الذي يمزج مابين الحنين والوعي النقدي، ليصبح الوطن عنده حالة وجدانية أكثر منه مكاناً مادياً.
ثانياً: الشعر كفضاء للوعي الإنساني
يتميّز شعر بدل رفو بصفاء لغته وشفافيته، إذ يعتمد على البنية البسيطة التي تخفي عمقاً دلالياً. لغته خالية من الزخرفة البلاغية المفرطة، لكنها محمّلة بطاقة رمزية عالية، تُعيد للقارئ صلةً فطرية مع الطبيعة والإنسان.

من الناحية الجمالية، يمكن توصيف شعره ضمن الواقعية التأملية، إذ يجمع مابين تصوير الواقع والبحث في معنى الوجود. في نصوصه، يتجاور الفقر والجمال، الألم والأمل، الغياب والحضور. ويُلاحظ أنّ الصورة الشعرية لديه ليست وصفية فحسب، بل تقوم بوظيفة فلسفية:
تُبرز هذه النزعة الإنسانيّة بعداً وجودياً في شعره، حيث يصبح النص وسيلةً للمصالحة بين الذات والعالم، وبين الماضي والحاضر.
ثالثاً: الترجمة كجسرٍ مابين الثقافات
تمثل الترجمة عند بدل رفو نشاطاً ثقافياً يتجاوز النقل اللغوي إلى حوار حضاري. لقد ترجم مختارات من الشعر الكردي إلى العربية والعكس، وساهم في تعريف القارئ العربي بالأدب الكردي الحديث من خلال أنطولوجيات ومقالات نقدية.

تحمل الترجمة في مشروعه بعداً هوياتيّاً مزدوجاً: فهي من جهة تثبّت حضور الأدب الكردي في الخريطة العالمية، ومن جهة أخرى تفتح الأفق أمام المثقف الكردي للانخراط في الثقافة الكونية.
ويمكن النظر إلى تجربته ، حيث لا تكون الترجمة تكراراً للنص الأصلي، بل إعادة إنتاجٍ له في سياق ثقافي جديد، يتيح للهوية المهمّشة أن تتكلم وتُسمع.
رابعاً: أدب الرحلات وتمثيل الآخر
يُعدّ بدل رفو من الأصوات القليلة التي أعادت إحياء أدب الرحلات في الأدب الكردي والعربي المعاصر. في كتابه «العالم بعيون كردية»، يقدّم مشاهداتٍ تنطوي على معرفة عميقة بثقافات الشعوب، وتقديراً للجمال الإنساني أينما وجد.
نصوصه في ادب الرحلات تتخذ شكل سردٍ توثيقيٍّ تحليلي، لكنها مشبعة بروح الشعر. لا يكتفي بوصف المكان، بل يُسائل الحضارة، ويقارن بين تجارب الإنسان في الشرق والغرب.واليوم يقدم نتاجه الجديد النمسا بعيون كوردية وهي النمسا التي لم يرها الشرق بعد بعيداً عن فيينا .
يُعيد رفو بذلك تعريف مفهوم الرحلة من كونها انتقالاً مكانياً إلى كونها تجربة معرفية وأنثروبولوجية؛ رحلة نحو الذات بقدر ما هي رحلة نحو الآخر.
يتجلّى في هذه النصوص وعي عميق بالاختلاف الثقافي وضرورة الحوار، ما يجعلها تنتمي إلى أدب أنسنة الرحلات، حيث يصبح السرد وسيلة لتكريس التفاهم والتنوّع.
خامساً: اللغة والرمز
من الناحية الأسلوبية، يعتمد بدل رفو على لغة متوازنة تجمع بين البساطة والتكثيف، وبين الحسّ التأملي والنغمة الوجدانية.
يستخدم الرموز الطبيعية – كالنهر، الجبل، الطائر، والطفل – لتجسيد أفكار فلسفية كالحلم والحرية والذاكرة. كما توحي المفردة الكردية في نصوصه بطابع هويّاتي لا يُخفي انتماءه، لكنها لا تنغلق في إطار قومي، إذ تتحول إلى علامةٍ إنسانية قابلة للتأويل في جميع الثقافات.
سادساً: المنفى كمنظور فلسفي


