التحالفات الوطنية للأحزاب الكردية في العراق:
قراءة نقدية واستشراف المستقبل
مقدمة تحليلية
إشكالية محورية في السياسة العراقية المعاصرة: كيف يمكن للأحزاب الكردية تجاوز محدودية التمثيل الإقليمي نحو شراكة وطنية فاعلة؟ هذه المقالة تقدم قراءة نقدية معمقة للأطروحات المقدمة، مع استشراف السيناريوهات المستقبلية وتحليل المعوقات الهيكلية.
إعادة قراءة التجربة التاريخية: التحالف الاستراتيجي بين KDP وPUK . نجاحات التحالف التاريخي التجربة التي قادها جلال طالباني ، تستحق تحليلاً أعمق. نجح التحالف في: توحيد القوة التفاوضية: في انتخابات 2005، حقق التحالف الكردي نحو 75 مقعداً من أصل 275 في البرلمان العراقي، ما منحه دوراً محورياً في تشكيل الحكومات المتعاقبة. الحصول على مناصب سيادية: تمكن الأكورد من الحصول على منصب رئاسة الجمهورية بشكل شبه دائم، إضافة إلى وزارات سيادية مهمة.
التأثير في العملية الدستورية: لعب التحالف الكردي دوراً رئيسياً في صياغة دستور 2005، بما في ذلك المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها.
لكن… المسكوت عنه رغم هذه النجاحات، هناك جوانب لم تتطرق لها بشكل كافی:
الثمن الداخلي للتحالف: التحالف الاستراتيجي كان مبنياً على توافقات هشة، وسرعان ما انهار جزئياً بعد 2010، حيث عادت الانقسامات الداخلية بقوة. و انقسامات داخل الاحزاب وخاصتا فی قیادات الاتحاد الوطنی الکردستانی بسبب مرض الرئیز جلال طالبانی
و محدودية التأثير الفعلي: رغم الوجود البرلماني القوي، لم تتمكن الأحزاب الكردية من حل القضايا الجوهرية مع بغداد (النفط، الميزانية، المناطق المتنازع عليها، البيشمركة).
الاعتماد على المحاصصة: التحالف استفاد من نظام المحاصصة الإثنية-الطائفية أكثر من بنائه لقاعدة وطنية حقيقية.
التحديات الهيكلية: أعمق من الانقسام الكردي
النظام الانتخابي والديموغرافيا السياسية
المقالة الأصلية تشير إلى الانقسام الكردي كتحدٍ رئيسي، لكن المشكلة أعمق:
الديموغرافيا الانتخابية: الأكورد يمثلون 15-20% من سكان العراق، ما يعني أن سقفهم الانتخابي محدود بطبيعته، حتى لو توحدوا تماماً.
التوزيع الجغرافي: تركز الناخبين الأكورد في محافظات محددة (دهوك، أربيل، السليمانية، وجزئياً كركوك ونينوى) يحد من قدرتهم على التأثير في انتخابات محافظات أخرى.
نظام القوائم المفتوحة: التحول من القوائم المغلقة إلى المفتوحة في 2018 عزز التنافس الفردي على حساب التحالفات الاستراتيجية.
نظام المحاصصة: فخ ذو حدين تذكر المحاصصة كتحدٍ، لكنها في الواقع معضلة معقدة: الاستفادة والخسارة: الأحزاب الكردية استفادت من المحاصصة (رئاسة الجمهورية، حصة وزارية ثابتة)، لكنها في المقابل ترسخت كـ”كتلة إثنية” وليس كقوة وطنية.
الدائرة المفرغة: المحاصصة تعزز الهويات الفرعية، ما يجعل التحول نحو خطاب وطني عابر للإثنيات أكثر صعوبة.
السؤال الجوهري: هل التحالف الوطني ممكن؟
العقبات الموضوعية
التباين الأيديولوجي: غالبية الأحزاب الشيعية والسنية العربية تتبنى خطاباً قومياً عربياً أو إسلامياً، بينما الأحزاب الكردية تتبنى خطاباً قومياً كردياً، ما يخلق فجوة أيديولوجية.
الملفات الخلافية: النفط، الميزانية، المناطق المتنازع عليها، البيشمركة – كلها ملفات تضع الأحزاب الكردية في موقع تصادمي مع بغداد، ما يصعب بناء تحالفات وطنية مستدامة.
الشك المتبادل: بعد تجربة استفتاء 2017 والموقف السلبي للحكومة الاتحادية والأحزاب العربية منه، تعمق الشك بين الطرفين.
نماذج التحالف المحتملة
رغم العقبات، هناك نماذج يمكن استكشافها:
التحالف التكتيكي المؤقت: تحالفات انتخابية محدودة الأهداف مع أحزاب معتدلة (مثل التيار الصدري سابقاً، أو كتل ليبرالية/مدنية ناشئة).
التحالف الموضوعي: بناء تحالفات حول قضايا محددة (مثل الإصلاح الإداري، مكافحة الفساد، اللامركزية) بدلاً من التحالف الشامل.
التحالف العابر للإثنيات: بناء قاعدة انتخابية في مناطق مختلطة (بغداد، البصرة، الموصل) عبر تقديم مرشحين كرد ضمن قوائم وطنية.
قراءة نقدية للتوصيات
تقدم خمس توصيات استراتيجية. دعونا نفحصها بعمق:
التوصية الأولى: توحيد الصف الكردي
الجدوى: عملياً، هذا صعب جداً بسبب:
الخلافات التاريخية بين KDP وPUK
ظهور أحزاب كردية جديدة (حركة التغيير/كوران، الجماعة الإسلامية، الاتحاد الإسلامي)
الخلاف حول كركوك والمناطق المتنازع عليها
التنافس على السلطة داخل الإقليم
البديل الواقعي: بدلاً من التوحيد الكامل، يمكن بناء “آلية تنسيق كردية” تحفظ استقلالية الأحزاب لكن تنسق مواقفها في القضايا الوطنية الكبرى.
التوصية الثانية: تحالفات وطنية مبكرة
الجدوى: هذا ممكن، لكن بشروط:
• وضوح الأهداف المشتركة
• عدم التضحية بالملفات الكردية الأساسية
• اختيار شركاء موثوقين لا يستخدمون “الورقة الكردية” لمساومات أخرى
المخاطر: التحالفات المبكرة قد تُفسر على أنها “مساومات” تضر بمصداقية الأحزاب الكردية أمام قاعدتها الانتخابية.
التوصية الثالثة: شعارات وطنية
الجدوى: هذا ضروري، لكن يجب أن يكون حقيقياً وليس مجرد شعارات.
التحدي: كيف تحافظ الأحزاب الكردية على هويتها الكردية وفي نفس الوقت تقدم خطاباً وطنياً عراقياً؟ هذه معادلة صعبة تحتاج لتوازن دقيق.
التوصية الرابعة: استهداف محافظات خارج الإقليم
الجدوى: محدودة جداً. الواقع السياسي والاجتماعي في العراق يجعل من الصعب على مرشح كردي الفوز في محافظة عربية، والعكس صحيح.
البديل الواقعی : التركيز على المناطق المختلطة (كركوك، نينوى، ديالى) والمناطق التي تضم جاليات كردية (بغداد).
التوصية الخامسة: آلية رصد الأداء
الجدوى: عالية ومهمة. تقييم التحالفات بعد الانتخابات ضروري لضمان أنها ليست مجرد صفقات انتخابية.
سيناريوهات مستقبلية
السيناريو الأول: استمرار الوضع الراهن
الاحتمال: عالٍ جداً (60-70%)
المؤشرات:
استمرار الانقسام الكردي
تحالفات تكتيكية مؤقتة مع بغداد
تركيز على المكاسب الإقليمية قصيرة المدى
تآكل تدريجي للنفوذ الكردي الوطني
السيناريو الثاني: التحالف الكردي المحدود
الاحتمال: متوسط (20-30%)
المؤشرات:
• تحالف بين KDP وPUK في قضايا محددة
• تنسيق انتخابي جزئي (وليس قائمة موحدة)
• محاولات لبناء جسور مع أحزاب عربية معتدلة
• تحسن نسبي في التمثيل الوطني لكن دون تغيير جذري
السيناريو الثالث: التحول الوطني الشامل
الاحتمال: منخفض جداً (5-10%)
المؤشرات:
• قائمة كردية موحدة
• تحالفات استراتيجية مع أحزاب وطنية
• خطاب وطني عابر للإثنيات
• تأثير كبير على صنع القرار الوطني
المعوقات: هذا السيناريو يتطلب تغييرات جذرية في البنية السياسية العراقية بأكملها، وليس فقط في الاستراتيجية الكردية.
استشراف بديل: نحو “الفيدرالية الناعمة”
بدلاً من التركيز فقط على التحالفات الانتخابية، ربما يكون من المفيد للأحزاب الكردية التفكير في استراتيجية أشمل:
إعادة تعريف العلاقة مع بغداد
من الصراع إلى التكامل: بدلاً من النظر للعلاقة مع بغداد كلعبة صفرية، يمكن بناء نموذج تكاملي حيث نجاح الإقليم يصب في مصلحة العراق ككل.
تعزيز الاستقلالية الاقتصادية: تقليل الاعتماد على ميزانية بغداد عبر تنويع الاقتصاد وتعزيز الاستثمارات المحلية والدولية.
الدبلوماسية الموازية: تعزيز العلاقات الدولية المباشرة للإقليم مع الحفاظ على إطار الدولة الاتحادية.
بناء قوة ناعمة كردية
الثقافة والإعلام: تعزيز الحضور الثقافي الكردي في العراق وخارجه.
النموذج التنموي: جعل إقليم كردستان نموذجاً للحكم الرشيد، مكافحة الفساد، والتنمية المستدامة.
المصالحة الداخلية: تعزيز الديمقراطية داخل الإقليم كنموذج يمكن تصديره للعراق.
خلاصة نقدية
تطرح أطروحة مهمة حول ضرورة التحول الاستراتيجي للأحزاب الكردية من فاعل إقليمي إلى شريك وطني. لكن التحليل المعمق يكشف عن تعقيدات أكبر:
الحقيقة الأولى: التحديات ليست فقط في الانقسام الكردي، بل في البنية السياسية العراقية بأكملها.
الحقيقة الثانية: نظام المحاصصة الذي استفادت منه الأحزاب الكردية هو نفسه الذي يحد من قدرتها على التحول الوطني.
الحقيقة الثالثة: التحالفات الانتخابية وحدها لن تكفي دون تغيير في الخطاب السياسي والممارسة الفعلية.
الحقيقة الرابعة: التوازن بين الحفاظ على الهوية الكردية والانفتاح الوطني يتطلب حكمة سياسية واستراتيجية طويلة المدى.
توصيات معدلة
بناءً على هذه القراءة النقدية، أقترح التوصيات التالية:
1. بناء آلية تنسيق كردية مرنة بدلاً من التوحيد الكامل الذي يبدو غير واقعي.
2. التحالفات الموضوعية بدلاً من التحالفات الشاملة، التركيز على قضايا محددة (اللامركزية، مكافحة الفساد، الإصلاح الإداري).
3. الاستثمار في المناطق المختلطة كجسور للتواصل الوطني.
4. تطوير خطاب “الفيدرالية الناجحة” الذي يقدم نموذج الإقليم كنموذج يمكن تعميمه على محافظات أخرى.
5. بناء تحالفات مع المجتمع المدني والقوى الليبرالية والشبابية التي تتجاوز الانقسامات الإثنية.
6. تعزيز الشفافية والحكم الرشيد داخل الإقليم كرأسمال سياسي للمطالبة بدور وطني أكبر.
كلمة أخيرة
المستقبل السياسي للأحزاب الكردية في العراق لن يتحدد فقط بقراراتها الاستراتيجية، بل بقدرتها على قراءة التحولات الإقليمية والدولية، وبناء تحالفات ذكية، والأهم: تقديم نموذج سياسي جذاب يتجاوز الإثنية نحو المواطنة الحقيقية. التحدي ليس فقط في الوصول إلى البرلمان الاتحادي بأعداد أكبر، بل في تحويل ذلك الوجود إلى تأثير حقيقي على صنع القرار الوطني وحل القضايا الجوهرية التي تهم العراقيين جميعاً، کوردآ وعرباً.
عباس عبد الرزاق

