عباس عبدالرزاق
يمثّل تشظّي الصوت الكردي في الانتخابات العراقية – سواء في إقليم كردستان أو في المناطق المتنازع عليها – ظاهرة مركّبة ذات جذور سياسية، اجتماعية، وتاريخية. غير أنّ فهم هذه الظاهرة يحتاج إطاراً أعمق من التحليل السياسي التقليدي؛ إذ تتقاطع هنا أسئلة الفلسفة السياسية حول الهوية والجماعة والتمثيل، مع ديناميات السلطة والتحالفات الانتخابية وموازين القوى. من منظور فلسفي، يطرح التشظّي سؤالاً جوهرياً:
كيف تتحول الجماعة من فاعل سياسي موحّد إلى فسيفساء متنافسة تعيد تعريف ذاتها باستمرار؟
ومن منظور سياسي، يرتبط هذا التحول بتبدّل التحالفات، الأزمات الداخلية، وطبيعة النظام العراقي نفسه الذي يغذّي الانقسام بدل إنتاج وحدة القرار.
الأساس الفلسفي لمفهوم «الصوت الجماعي»
تتعامل الفلسفة السياسية – من روسو إلى تايلور وحنة آرندت – مع “الإرادة العامة” بوصفها تعبيراً عن وحدة الجماعة، لا كمحصلة حسابية للأصوات. ووفق هذا المنظور، فالصوت الكردي ليس مجرد كتلة انتخابية، بل هو:
-
1. تصوّر مشترك للمصلحة العامة الكردية
-
2. وعي جمعي بالتاريخ والمصير المشترك
-
3. رؤية موحّدة للأولويات القومية والسياسية
وعندما ينكسر هذا الوعي ويتحوّل إلى جزر منفصلة، يصبح التشظّي عرضاً لمرضٍ أعمق في بنية الجماعة السياسية. من زاوية هيغلية، يشير التشظّي إلى غياب “الروح الموضوعية” التي تنظّم الإرادة العامة ضمن مؤسسات قادرة على تمثيلها. أما من زاوية رولزية، فالانقسام يعني انهيار “التوافق العقلاني” بين الفاعلين.
تشظّي الصوت الكردي كنتاج لبنية سياسية مأزومة
-
1. الحزبية الصلبة وإلغاء المجال العمومي المشترك
أدّت الصراعات بين الأحزاب الكبرى إلى تحويل السياسة الكردية من مشروع قومي إلى نظام مغلق للمنافسة الداخلية. فبدل أن تكون “القضية الكردية” نقطة ارتكاز، أصبحت:
-
معيار الولاء الحزبي
-
ميداناً لتثبيت النفوذ
-
ورقة مساومة في بغداد والمركز
وهذا يعيدنا لفكرة فوكو عن “تذرير الجماعة” عبر تحويلها إلى أفراد وأجنحة معزولة.
2. الأزمة المؤسسية واهتزاز الثقة
غياب البرلمان لفترات، الخلافات على شرعية المؤسسات، والتضارب في إدارة الموارد والحدود،
كلّهاعوامل أفقدت المواطن الكردي مرجعية موحّدة.
تسأل الفلسفة هنا: كيف يمكن لإرادة جماعية أن تتجسّد في غياب مؤسسات حيادية تُعبّر عنها؟
3. تحوّل الهوية السياسية
يظهر في السنوات الأخيرة انتقال من الهوية “القومية-الجماعية” إلى هوية “فردية/عشائرية/محلية”.
هذا التحول يُفكّك مفهوم “المصلحة العليا” لصالح مصالح صغيرة متنافسة.
وهذا ما وصفه تودوروف بـ تفكك المشترك الأخلاقي داخل الأمة الواحدة.
تشظّي الصوت الكردي في المناطق المتنازع عليها: قراءة فلسفية–سياسية
في كركوك وخانقين وسنجار وسهل نينوى، يبدو التشظّي أكثر حدة، وهو نتيجة:
-
1. بيئة مركبة من الهويات السياسية
-
2. غياب مرجعية كردية موحّدة
-
3. تبدّل موازين القوى الأمنية والإدارية
-
4. ضعف الخطاب القومي الحاضن لكل الأطراف
هنا يتحول المواطن الكردي إلى “ذات ممزقة” بين:
-
الانتماء القومي
-
الضرورات الاقتصادية
-
التنافس الحزبي
-
الخوف من مستقبل المدينة
وهذا ينسجم مع مقولة زيغمونت باومان حول “الحداثة السائلة”، حيث تتحلل الهويات الصلبة وتذوب في تحالفات ظرفية.
الآثار السياسية المباشرة للتشظّي
-
1. تراجع القدرة التفاوضية للكرد في بغداد
-
2. إضعاف ملف المناطق المتنازع عليها
-
3. ضياع الأصوات وتشتتها بين قوى جديدة وهامشية
-
4. إعادة إنتاج مراكز السلطة نفسها دون إصلاح
-
5. فقدان الفرصة لاستعادة الثقة الشعبية
هذه النتائج ليست سياسية فحسب؛ بل تعكس فقدان “التضامن الجمعي” الذي تحدّث عنه دوركهايم، وتحوله إلى تضامن ميكانيكي محدود.
نحو إطار فلسفي–سياسي لإعادة بناء الصوت الكردي
-
1. العودة إلى مفهوم “العقد الكردي”
وهو تصور فلسفي–قانوني لإعادة بناء العلاقة بين:
المواطن ,الأحزاب ,المؤسسات ,المشروع القومي.
بعيداً عن الإقصاء.
-
2. ترسيخ “الأخلاق السياسية”
المطلوب هنا ليس شعارات، بل: الشفافية ,المساءلة,
احترام رأي المخالف, إنهاء الاحتكار الحزبي .
أي بناء “مجتمع سياسي أخلاقي” كما يصوره هابرماس في نظريته عن الفعل التواصلي.
-
3. إنتاج سردية جامعة
يحتاج الكرد إلى سردية سياسية موحدة تتجاوز الأيديولوجيا الحزبية نحو:, مشروع قومي مدني
,يعترف بالتعدد , ويجمع المختلفين تحت رؤية واحدة للمستقبل
-
4. آليات عملية
-
تفاهمات استراتيجية جديدة بين الأحزاب
-
توحيد الموقف في المناطق المتنازع عليها
-
إعادة تفعيل المؤسسات الشرعية
-
إصلاح قانون الانتخابات
-
إشراك المستقلين والخبراء في صياغة القرار
تشظّي الصوت الكردي ليس مجرد خطأ انتخابي أو نتيجة خلافات حزبية؛ بل هو مشكلة فلسفية في جوهرها تتعلق بالهوية والإرادة العامة والتمثيل، وهو أيضاً مشكلة سياسية تُضعف الدور الكردي في العراق والمنطقة. ولمعالجة هذا التشظّي، لا بد من مشروع يربط:
الفلسفة: إعادة تعريف معنى “البيت الكردي”السياسة: خلق آليات عملية لتوحيد القرار
المجتمع: إعادة بناء الثقة
ليتحول الصوت الكردي من فسيفساء متنافرة إلى إرادة جماعية قادرة على الفعل والتأثير.
تشير نتائج الانتخابات الأخيرة في العراق وإقليم كردستان إلى حالة متنامية من تشظّي الصوت الكردي، سواء داخل الإقليم أو في المناطق المتنازع عليها. هذا التشظّي لم يعد ظاهرة انتخابية، بل أصبح تعبيراً عن أزمة أعمق في:
هوية التمثيل السياسي
شرعية المؤسسات
بنية الأحزاب الكردية
العقد الاجتماعي القومي
وقد أدى ذلك إلى تراجع ملحوظ في القوة التفاوضية الكردية داخل بغداد، وإلى خسارة مواقع سياسية وإدارية كانت سابقاً محسومة للقوى الكردية.
كما ساهم التشظّي في فقدان الانسجام اللازم لإدارة الملفات القومية المشتركة مثل كركوك، المناطق المتنازع عليها، والملفات المالية والدستورية.
تظهر القراءة الفلسفية–السياسية أن الانقسام الحزبي تحول إلى بنية مستقرة تتغذى على التنافس على النفوذ بدلاً من تمثيل الإرادة العامة. كما أن ضعف التواصل المؤسسي داخل الإقليم أدى إلى تأكل الثقة الشعبية وإلى إعادة إنتاج تكرارية لأزمات الحوكمة.
التوصيات السياسية
أولاً: بناء الإطار القومي المشترك
-
1. صياغة “العقد السياسي الكردي الجديد”
إطار استراتيجي تُلزم به جميع القوى الكردية، يحدد مبادئ التعاون في: الملفات القوميةالموقف الموحد تجاه بغداد ، ضمان الحقوق في المناطق المتنازع عليها
-
2. فصل القضايا الحزبية عن القضايا القومية
بحيث لا تتأثر الملفات الاستراتيجية (كركوك، الميزانية، المادة 140) بصراعات النفوذ الداخلي.
ثانياً: إصلاح البنية الانتخابية
-
3. مراجعة عميقة لقانون سانت ليغو وفهم آلياته وتأثيراته لضمان عدالة التمثيل وتقليل فقدان
الأصوات وتوحيد القواعد الانتخابية.
-
4. إطلاق برنامج توعية انتخابية واسعة
يشرح للناس أهمية التصويت الموحد وخطورة تشتت الأصوات في الدوائر الحساسة.
ثالثاً: تعزيز الحوكمة والمؤسسات
-
5. إعادة هيكلة البرلمان والإدارات المحلية داخل الإقليم لضمان فصل السلطات ومنع تكرار الأزمات الدستورية والإدارية.
-
6. تفعيل الإدارة المهنية للكفاءات عبر إبعاد المؤسسات عن المحاصصة الحزبية، لضمان الثقة الشعبية.
-
7. مأسسة العمل المشترك بين حكومتي أربيل والسليمانية لإنهاء حالة الانقسام الفعلي في القرار التنفيذي.
رابعاً: استراتيجية خاصة بالمناطق المتنازع عليها
-
8. إنشاء “غرفة تنسيق قومية” للملفات المتنازع عليهاتتولى إدارة السياسات في كركوك وخانقين وسنجار وبوابة مخمور، وتضع رؤية موحدة للتفاوض مع بغداد.
-
9. إعادة بناء الخطاب الكردي في تلك المناطق
عبر التركيز على:الخدمات ، الأمن المحلي ، الثقة المجتمعية ،الدفاع عن الحقوق في الدستور .
خامساً: إعادة بناء السردية القومية
-
10. صياغة خطاب وطني حديث
قائم على:
-
العدالة
-
التعايش
-
احترام التعدد
-
قيم الحوكمة الرشيدة
-
11. إطلاق مشروع ثقافي–سياسي لإعادة تعريف الإرادة العامة الكردية مستند إلى الفلسفة السياسية التي تؤكد أن الجماعة لا تُبنى إلا عبر سردية مشتركة ومعنى مشترك للمصلحة العامة.
سادساً: توصيات عاجلة قصيرة الأمد
-
12. خطوات ثقة بين الأحزاب الرئيسية تشمل:
-
اجتماع قيادي دوري
-
لجنة مشتركة للانتخابات
-
اتفاق على خطاب مشترك في بغداد لمدة سنتين
-
13. خطة طوارئ لاحت…
[8:20 ص، 2025/11/15] كاك سوران المسرى: 11. إطلاق مشروع ثقافي–سياسي لإعادة تعريف الإرادة العامة الكردية مستند إلى الفلسفة السياسية التي تؤكد أن الجماعة لا تُبنى إلا عبر سردية مشتركة ومعنى مشترك للمصلحة العامة.
سادساً: توصيات عاجلة قصيرة الأمد
-
12. خطوات ثقة بين الأحزاب الرئيسية تشمل:
اجتماع قيادي دوري
لجنة مشتركة للانتخابات
اتفاق على خطاب مشترك في بغداد لمدة سنتين
-
13. خطة طوارئ لاحتواء خسائر الانتخابات الأخيرة

