متحف زاموا: ذاكرة الفن الكوردي في قلب السليمانية
عندما يروي البيت حكاية أمة
د. ژینۆعبدالله
في قلب مدينة السليمانية، حيث تتلاقى الأزقة العتيقة مع نبض الحياة المعاصرة، يقف بيت عريق كشاهد على تاريخ يمتد لقرون. حين تطأ قدماك عتبة متحف زاموا، تستقبلك رائحة الماضي العبقة، وتحتضنك جدران محملة بذاكرة تعود بك إلى مئات السنين. هنا، في هذا المكان الذي يحتل موقعاً متميزاً وسط المدينة، يفوح عبق التراث الأصيل، وتنبض الحياة في كل لوحة وزاوية، لتروي حكاية الفن التشكيلي الكوردي عبر الأجيال.
بيت الأستاذ إبراهيم أحمد: من مهد الفكر إلى معبد الفن
تأسس متحف زاموا عام 1995 ليكون موطناً للفن التشكيلي الكوردي، وقد اختير له بيت له من التاريخ نصيب وافر. فهذا البناء الذي يعود تاريخ إنشائه إلى الأيام الأولى لتأسيس مدينة السليمانية، كان في ما مضى ملتقى للفكر التنويري والوطنية الصادقة. بين جدرانه عاش لعقود كاملة الأستاذ الأديب والشاعر والروائي المعروف إبراهيم أحمد، فكان البيت شاهداً على ميلاد الأفكار وصياغة الكلمات التي شكلت وعي أجيال.
هێرۆ إبراهيم أحمد: حارسة الإرث ورائدة المشروع
أسست السيدة هێرۆ إبراهيم أحمد هذا المتحف وتولت مسؤولية الإشراف عليه منذ البداية، وقدمته هدية ثمينة للفنانين التشكيليين. ومنذ تلك اللحظة، تحول بيت العائلة العريق إلى قصر للفن الكوردي، ليصبح بعد عام 1995 محطة تاريخية في مسيرة الفن التشكيلي، حيث يوفر مناخاً فنياً متميزاً لعرض تجارب الفنانين، ويصبح ملتقى للمبدعين والمثقفين، ومنصة لبناء جسور التواصل الفني داخل كوردستان وخارجها. وبذلك، بات نموذجاً ملهماً للعديد من صالات العرض الخاصة والعامة في كردستان.
في حوار خاص: رؤية وطموح
في لقاء خاص مع “المسرى”، كشفت السيدة هەتاو إبراهيم أحمد، المشرفة على متحف زاموا، عن الرؤية التي تحرك هذا الصرح الثقافي قائلة: “من أهم أهدافنا الرئيسية التعريف بقدرات الفنانين التشكيليين الكورد وإظهار مواهبهم، وعرض نماذج حية تعكس المستويات المختلفة لهذا الفن. نحن مؤسسة فنية ثقافية تربوية لمدينتنا، ولم نحصر أسلوب عملنا في نمط واحد، بل تجدون لدينا كافة الأساليب والمدارس الفنية.”
وأضافت: “استمرارية صالة زاموا على مدي ثلاثة عقود أكسبها دوراً ومكانة خاصة في تاريخ الفن التشكيلي، وجعلها معروفة على مستوى المنطقة. إنها الصالة الوحيدة التي استطاعت سد الفراغ الذي يواجه الفنانين التشكيليين الكورد إلى حد كبير. تُدار زاموا من قبل طاقم متخصص بالكامل في مجال الفن التشكيلي، وهي الصالة الوحيدة في مدينة السليمانية التي تحرص على أن تبقى جدران قاعاتها مزدانة باستمرار بالأعمال الفنية، وأبوابنا مفتوحة دائماً للزوار والضيوف الأجانب والمنظمات المختلفة.”
مجموعة فنية تؤرخ لثلاثة عقود من الإبداع
تشكل جميع اللوحات المعروضة في هذا المتحف جزءاً من المجموعة الفنية لصالة زاموا منذ عام 1995 حتى اليوم. وقد حرصت إدارة المتحف على تصنيف المسار الفني التشكيلي في كوردستان العراق بشكل يبرز التطور الزمني، بحيث تبدأ المعروضات بأقدم لوحة تعود إلى عام 1945 ، وتمتد لتشمل أعمال السنوات اللاحقة حتى وقتنا الحاضر.
جولة في أروقة الذاكرة
يتكون المتحف من عدة غرف، لكل منها حكايتها الخاصة:
غرفة الأستاذ إبراهيم أحمد والسيدة گەلاوێژ: خُصصت هاتان الغرفتان المتجاورتان في بداية حياتهما الزوجية للأستاذ إبراهيم أحمد وزوجته السيدة گەلاوێژ. وفي الغرفة الأولى وُلدت السيدة هێرۆ.
غرفة السيدة هێرۆ إبراهيم أحمد: كانت هذه الغرفة في الماضي مخصصة للسيدة هێرۆ. وتتميز بأن جميع لوحاتها من إبداع الفنانة چیمەن إسماعيل، التي تقدمها سنوياً كوفاءً وتقديراً في ذكري ميلاد السيدة هێرۆ.
أما الغرف الأخرى، فتروي عشرات القصص من تاريخ عائلة الأستاذ إبراهيم أحمد، لتكون شاهداً حياً على حقبة مهمة من تاريخ الفكر والثقافة الكردية.
زاموا: اسم من أعماق التاريخ
اسم “زاموا” ليس مجرد تسمية عابرة، بل هو استحضار لجذور تاريخية عميقة. فـ”زاموا” تشير إلى منطقة في محافظة السليمانية، كانت في العصر السومري الأكادي، في الألفية الثالثة قبل الميلاد، أي قبل نحو 4300 عام، دويلة صغيرة امتدت من سهل ڕانیە إلى بازيان ثم السليمانية و شارباژێڕ وسهل شارەزور و پێنجوێن ومنطقة سەرتەکی بەمۆ حتى زەهاو. وكانت عاصمة دولة زاموا في منطقة شارەزور ، وأشهر وأقوى ملوكها هو الملك أنوبانيني.
ثلاثة عقود من العطاء الفني
منذ عام 1995 وحتى وقتنا هذا، احتضنت صالة زاموا أكبر عدد من أعمال الفنانين التشكيليين، ونظمت عشرات المعارض الفردية والمشتركة، والندوات النقدية والحلقات النقاشية، والفعاليات المتنوعة للفنانين الكوردوالعرب من مختلف مدن كوردستان خاصة، والعراق عامة. وهكذا، يواصل المتحف مسيرته كحارس أمين على ذاكرة الفن التشكيلي الكوردي وشاهد على إبداعات ثلاثة عقود من العطاء المتواصل.
وفي ختام هذه الجولة داخل أروقة متحف زاموا، لا بد من الإشارة إلى أن هذه المادة لم تكن لتكتمل لولا التعاون الكبير من السيدة هەتاو إبراهيم أحمد، المشرفة على المتحف، التي أتاحت لنا فرصة التعرف عن كثب على تفاصيل هذا الصرح الثقافي، وزودتنا بالمعلومات الدقيقة حول تاريخ كل جناح، وسياق اللوحات المعروضة، وحكايات المكان التي لا تُروي إلا من قبل من عاشها وحفظها بأمانة.


