الكاتب.. ناجي الغزي
الانتخابات، حدثٌ يستحق التوقف عنده بقدر ما هو بداية لمسار جديد. إن الخروج من محطة الاقتراع دون انفلات أمني أو اضطرابات واسعة ليس مجرد تفصيل فني، بل مؤشر أولي على قدرة المجتمع على الامتثال للآليات الدستورية كأداة لتداول السلطة. ومع ذلك، يبقى النجاح الحقيقي في تحويل هذا الحدث الانتخابي إلى زخم إصلاحي مؤثر في إدارة الدولة.
أولاً: إن التجربة الديمقراطية العراقية لا تُقاس بعملية اقتراعٍ واحدة، بل بسلسلة من العمليات المتتالية: مؤسسات فعالة، قوانين ناظمة، ثقافة سياسية متقبلة للمنافسة المشروعة، ونظام قضائي مستقل يضمن النزاهة والمساءلة. من الطبيعي أن يواجه الانتقال الديمقراطي ثغرات؛ فالمجتمعات النامية سياسياً تتعلم من الأخطاء وتُصلحها عبر ممارسات متكررة ومراجعات شاملة. لكن الخطر يكمن في تكرار الأخطاء نفسها.
ثانياً: على الطبقة السياسية الجديدة أن تُدرك أن مسؤوليتها اليوم تتعدى توزيع المناصب إلى استعادة الثقة العامة. لقد أدلى المواطنون بواجبهم الأخلاقي والدستوري؛ والرد المناسب من القادة هو الالتزام بخارطة طريق واضحة لمعالجة الملفات الملحة مثل: الأمن ومحاربة الفساد وإصلاح الإدارة العامة وعدم الانخراط في مناوشات سياسية طويلة ومنهكة، أو التمسك بمنطق المحاصصة الضيقة، سيُضعف المكاسب ويعمّق الاستياء الشعبي.
ثالثاً: ثمة ضرورة ملحّة لإعادة هيكلة الاقتصاد بعيداً عن منطق الريع. التحوّل نحو نموذج اقتصادي مرن ومتنوع يتطلب استراتيجية وطنية للاستثمار في القطاعات المنتجة مثل: الصناعة، الزراعة، الطاقة المتجددة، البنى التحتية الرقمية، إلى جانب سياسات مالية تُعزز الشفافية وتمنع تبديد الموارد وتشجيع القطاع الخاص الوطني، وربط الموارد العامة بمشروعات تنموية قابلة للقياس، هما مفتاح خلق فرص عمل واستدامة التمويل العام.
رابعاً: لا يمكن تحقيق الاستقرار الداخلي من دون مقاربة أمنية وسياسية متوازنة تحمي السيادة وتمنع التدخلات الخارجية. ذلك يتطلب جهازاً أمنياً مؤسسياً خاضعاً للرقابة المدنية، وسياسة خارجية تحمي المصالح الوطنية عبر تحالفات مرنة وغير حصرية، وبناء قدرات محلية تمنع استغلال الفجوات الأمنية من جهاتٍ داخلية أو إقليمية.
خامساً: دراسة إخفاقات الماضي ضرورة عملية، فالفترات التي شهدت انقساماً حاداً أو إخلالاً بسيادة القانون أو تبذيراً للموارد علمتنا أن الإصلاح يحتاج إلى خطوات متزامنة مثل: تشريعات تصحيحية، وتقوية القضاء، إصلاحات إدارية، برامج اقتصادية واضحة الأهداف. المراجعة ليست انتقاماً، بل أداة لتحويل أخطاء الأمس إلى دروسٍ لبناء مؤسسات أقوى وأكثر قدرة على التحمل.
سادساً: القيادة المطلوبة ليست قيادة شعارات وصور فيسبوكية، بل قيادة إجراءات. هي قيادة تعي أن الشرعية لا تُقاس بالنداءات الوطنية وحدها، بل بقدرتها على تحويل الموارد والقرار والسياسة إلى تحسين ملموس في حياة الناس. إن الأزمات العاصفة التي تواجه العراق، اقتصادية واجتماعية وأمنية، تتطلب درجة عالية من الواقعية السياسية، تضع مصلحة المواطن ومصلحة الدولة فوق الحسابات الضيقة.
رغم أن الانتخابات محطة مهمة، لكنّ الطريق لا ينتهي عند صناديق الاقتراع. إذا أردنا أن تتحول لحظة الاقتراع إلى دفعة نحو دولة قادرة على حماية مواطنيها وتحقيق تنمية عادلة، فالتحدّي الآن أمام من تولّوا المسؤولية: أن يثبتوا أن التعلم من الإخفاقات ممكن، وأن العمل المشترك لصالح الوطن أقدر من الحسابات الحزبية الضيقة.
المصدر .. الصباح