عندما كان (نشأت السنوي) أمينا للعاصمة بغداد وبدأ التبليط بالتعديل أولا، ثم فرش الرمل والحصو الناعم ثم المشبك الحديدي (بي آر سي) ثم التبليط باليد وبالشيبك الخشبي المدهون بالنفط الأسود كي لا يلتصق بالجير واستمر التبليط أشهرا طويلة وكان من ضحايا التبليط أمين العاصمة نفسه حيث نقل من منصبه إلى محل آخر، وما إن انتهى التبليط حتى أصبح شارع الرشيد المتنزه الأمثل لأهالي بغداد وخصوصا سكان الكرخ، والسعيد منهم من يحصل وقت العصر على مكان خال في تخت أحد القهاوي المشرفة على الشارع ليتفرج على الرائحين والقادمين من الناس الذين ليس لهم سوى التفرج بعضهم على بعض أو انتظار مرور عربات الغانيات من الميدان إلى الباب الشرقي في عربات مكشوفة وهن سافرات ومن الطبيعي أن لا تخرج غانية منهن إلا إذا كانت ذات جمال واشتهرت منهن (زهرة عجم) التي قد تكون إيرانية من نسل بقايا عجم الوالي محمد الذي سيطر على بغداد في أيام الدولة العثمانية.
واشتهرت كذلك سليمة مراد (سليمه باشا) وصبيحة كسرى وخديجة بيدي وكانت الحكومة قد أصدرت أمرا يقضي بأن تلبس الغانيات ثيابا وعباءات وجواريب لونها أزرق غامق تميزا لهن عن باقي النساء كما أمرت أن يجلس خادمها بجانب العربنجي وأن يلبس عرقجيناً أصفر اللون واستمر الحال أكثر من سنة وهن بهذا الزي حتى زال تدريجيا بمرور الوقت.
وبدأ الناس يعمرون أملاكهم الواقعة على الشارع أما بشكل مقاه أو دكاكين أو مخازن (مغازات)، أما في الأعياد أو في المراسيم الملكية أو في قدوم زائر أجنبي فليس من السهل أن يجد الإنسان موضع قدم إذ تكون بغداد بأجمعها وسكان الألوية قد تجمعت في الشارع. وأما سيارات الأجرة (التاكسيات) فلم تبدأ العمل إلا في منتصف العشرينيات.
وأول من بدأها سيارات (الفيات) الصغيرة ثم كثرت بعدئذ وأدت الشكوى من ضيق الشارع وعدم استيعابه لوسائط النقل ففتحت الحكومة مؤخرا شارع (غازي) المعروف بشارع الكفاح، وشارع الأمين العرضاني للعبور من وإلى الكرخ، وشارع العباخانة بعد أن هدت البناية المقابلة لجسر مود تماما والتي كان يشغلها بائع العرق الشهير يعقوب طيارة، وبجانبه محل حافظ القاضي، وقد اصطدمت مرارا العربات القادمة من الكرخ على جسر مود بدكاكينهم وبالزبائن، ثم بلطت الحكومة شارع الميكانيك مقابل جامع سيد سلطان علي، وشارع باب الشيخ والشارع المؤدي إلى محطة قطار بعقوبة فخف الضغط على شارع الرشيد بصورة نسبية وحدثت المشكلة الكبيرة حين فتح شارع غازي ذلك إن أمين العاصمة أرشد العمري (وذلك في الثلاثينيات من القرن العشرين) قرر أن يكون شارع غازي واسعا من ساحة قنبر علي حتى ساحة الصدرية.
أما الجانبان الآخران فقد بقيا ضيقين بينما أصر المهندسون الذين استخدموا لهذا الغرض أن يكون الشارع عريضا ذا ممرين من بدايته حتى نهايته تحسبا للمستقبل وأصر أمين العاصمة على رأيه وقال في مؤتمر صحفي إن أهالي بغداد صاروا طماعين يريدون أن يقبضوا عن عقاراتهم المستهلكة مبالغ قد تصل إلى مئة ألف دينار لكل طرف من الشارع وهو مبلغ باهظ لست مستعدا لأدائه وكان عنيدا بطبيعته واستقال المهندس احتجاجا على هذا العناد الذي لا لزوم له وبرهنوا له أن ما تقبضه الأمانة من بيع أملاكها على الرصيف سوف يسدد مبالغ الاستملاك وأكثر وترك المهندسون العراق كما تركوا عنق الزجاجة في نهاية الشارع حتى اليوم.