الليل لم يكن مثل أي ليلة أخرى. الريح تعوي بين الصخور العالية كأنها تعزف مرثية قديمة، والثلج يتساقط بصمت، يدفن آثار الأقدام قبل أن تكمل الخطوة الثانية. في قلب الجبل، بين كهوف ضيقة، جلس هو ورفيقه عند نار صغيرة تكاد لا تقاوم البرد، لكنها تحمل حرارة تكفي لإحياء الذكريات.
قال وهو يمد يديه المرتجفتين إلى اللهب:
– أتذكر أول ليلة لنا هنا؟ كنا نظن أن الجبل سيمنحنا أجنحة، وأن البندقية وحدها كافية لفتح أبواب الحرية.
ابتسم رفيقه، وابتسامته تشبه شرارة النار:
– وكيف أنسى؟ كنا نقتسم رغيفًا يابسًا ونقول: هذا خبز الثورة. كنا نغني في الظلام ونصدق أن الغد سيأتي أجمل.
مرت الريح كأنها تردد كلمات لم تُقل. فجأة ارتجف الجبل. لم يكن زلزالًا طبيعيًا، بل صوتًا عميقًا خرج من أعماق الصخور:
“لا تخافوا… خطاكم لن تضيع. كل حجر هنا يحمل اسمًا، وكل شجرة تحفظ سرًا.”
انتفض قلبه. لم يكن وعيًا يقظًا ولا حلمًا عابرًا، بل يقينًا أن الجبال تتكلم، وأنها لا تصمت كما يظن البشر في المدن.
رفع رفيقه رأسه نحو القمم البيضاء وقال: الجبال تعرف الحقيقة أفضل من البشر. هي وحدها التي لا تخون.
أخرج من جيبه ورقة مهترئة كتبها قبل سنوات في زنزانة مظلمة، وألقاها في النار. لم تحترق الورقة، بل تحولت إلى طائر أبيض حلق فوقهما، ثم ذاب في الثلج.
أطرق رأسه هامسًا: إذا كانت الورقة تتحول إلى طائر… فربما دماؤنا ستتحول إلى أغنية.
ضحك رفيقه: نعم، أغنية يرددها الجبل حين نصير ظلالًا فيه.
ظل اللهب يرقص بينهما، والجبل يستمع، كأنه يكتب فصلًا جديدًا من كتاب الحقيقة.
باب الأمن الأحمر
حين أطفأت النار أنفاسها، انفتح أمامه ممر ضيق يقوده إلى باب حديدي ضخم، مصبوغ بلون أحمر قاتم، كأنه جدار من دماء لم تجف بعد. اقترب، فإذا بالباب يهتز من الداخل، وتعلو صرخات مألوفة. كانت أصوات زوجته وأطفاله تناديه بأسمائهم كأدعية مقدسة. مد يده ليطرق الباب، لكنها التصقت بالحديد. كان ساخنًا كالجمر، والصرخات تتصاعد كاللهب. حاول كسره، لكن الباب لم يتزحزح، بل ازدادت لمعانه حتى صار كجدار ناري.
قال رفيقه بحزن: لا أحد يفتحه… هذا باب الأمن الأحمر.
صرخ وهو يحاول:
– لكنهم عائلتي! أبرياء!
ابتسم الرفيق:
– في هذا البلد لا يوجد أبرياء. حتى الأطفال أسرى، حتى الأمهات محكومات بالصمت.
بدأ الحديد ينزف قطرات حمراء، كل قطرة تتحول إلى وجه صغير لطفل، يبتسم ثم يذوب. فجأة، تفتّت الباب إلى شظايا زجاجية حمراء، تساقطت حوله مثل حلم محطم. خلفه لم يرَ سوى فراغ أبيض صامت، كقبر واسع بلا نهاية.
جلس على الأرض منهارًا، ويد رفيقه على كتفه: الجبال تحتفظ بأصواتهم… لا تخف. يوماً ما، حين يفتح كتاب الجبل، سيُكتب اسمهم قبل أسماءنا جميعًا.
المدينة
حين وصل إلى التل المطل على البلدة، كان الغبار يملأ الأفق، والريح تحمل رائحة غريبة، لاذعة. أخرج الكاميرا، وبدأ يضغط على زرها، صورة بعد صورة. كل ومضة كانت كأنها تبتلع صرخات المدينة.
الأمهات ممددات على الطرقات يحضن أطفالهن، والرجال متجمّدون بأوضاع غريبة، وأصوات الموت صامتة.
همس له الصوت الداخلي: لماذا تصوّر؟ هل تريد أن تحوّل الجحيم إلى صورة؟
أجاب بعناد:
– لأني لا أملك غيرك. إن لم أُثبت ما رأيته، سيقولون: لم يحدث شيء.
واصل التصوير، وكل لقطة كانت مثل نَفَس مقطوع، شاهد قبر صغير. وعندما انتهى، رأى أن عدسة الكاميرا تغطيها دمعة جامدة، ووجد الدموع على عينيه هو أيضًا.
جلس وسط الجثث، رفع الكاميرا إلى السماء:
– ها أنا ذا… مصوّر بكى، وكاميرا بكت معي.
المدينة الجديدة ومسح الذاكرة
استفاق من حلمه في مدينة لم يعرفها. الشوارع نظيفة، السيارات تلمع، والشعارات الحزبية تتأرجح بين المباني. دخل قاعة مؤتمرات ضخمة، صور الشهداء تملأ الجدران، لكنه اكتشف أن ملامحه محيت،ووجوده تم مسحه من ذاكرة الحزب.
سمع صوت رفيقه: لقد صاروا يملكون الكلمات الآن، لكن الجبال تحفظ الحقيقة.
رفع رأسه، ووجد ورقة بيضاء صغيرة تحمل جملة بخط قديم: إن نسوك، فلا تنسَ نفسك. الجبل سيكتب
الحقيقة.
ابتسم بحزن، وقال: ربما… ربما يكتب الجبل ما لم يقدر البشر على كتابته.
العودة إلى قلب الجبل
عاد في الحلم إلى قلب الجبل، الصخور البيضاء تتلألأ تحت ضوء القمر، والثلج يسقط بلا توقف. فجأة، انشق الصخر وظهر كتاب حجري ضخم ينبثق من قلب الجبل، صفحاته من ثلج ودم، تحمل أسماء الرفاق، رسائل لم تصل، صور الأطفال، أغاني المنافي، وصرخات الأسرى في الأمن الأحمر.
مد يده، فشعر بذبذبات دافئة، كأن الجبل نفسه يتحدث:
– هذه صفحات لم يجرؤ البشر على قراءتها، لكنها محفوظة هنا… هنا فقط.
تح الصفحة، والزلزال الفكري بدا أقوى من أي زلزال طبيعي، بينما صديقه قال:
– من خلال متابعتي وتجربتي، المنظومات الفكرية أصيبت باهتزازات شديدة، أدت إلى تشقق الأطر التقليدية، وسقوط الثوابت الأيديولوجية، الاشتراكية والقومية، بكل سرور.
الحقيقة المحفوظة
هكذا يبقى الجبل شاهدًا على كل صرخات التاريخ، على كل دمعة لم تروَ، وعلى كل حلم لم يُكتب.
حتى لو مسح البشر الذاكرة، وأخفوا الوجوه، ستظل الحقيقة محفوظة بين الصخور البيضاء، بين الصفحات المصنوعة من الثلج والدم.
فالحقيقة ليست في الكلمات التي يملكها القادة، بل في الجبال، في الصخور، في القلب الذي يتذكر.