الجزء الثاني
الفصل الرابع:
التحول الكردي من قوة عسكرية إلى فاعل سياسي إقليمي
تمثل الحالة الكردية في شمال وشرق سوريا إحدى أكثر القضايا تعقيداً في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. فالقوى الكردية لم تعد مجرد وحدات عسكرية محلية نشأت تحت ضغط الحرب على داعش، بل أصبحت – بفضل الدعم الأمريكي والتحولات السورية – فاعلاً سياسياً يمتلك نفوذاً جغرافياً ومؤسساتياً وأمنياً. ويمكن تفسير هذا التحول عبر أربعة عوامل رئيسية:
الشرعية العسكرية التي تحولت إلى شرعية سياسية
تقدمت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد 2014 لتكون رأس الحربة في الحرب ضد تنظيم داعش. ورغم التقليل التركي من أهميتها، إلا أن الخطاب الأمريكي والأوروبي كان واضحاً: قسد هي القوة الأكثر تنظيماً، و الأكثر انضباطاً، والأكثر قدرة على العمل مع واشنطن. ومع مرور الوقت، تحولت هذه الشرعية العسكرية إلى شرعية سياسية، خصوصاً مع وجود إدارة ذاتية تمتلك مؤسسات حكم وخدمات وأجهزة أمنية. وأصبحت واشنطن ترى أن استمرار نفوذها في سوريا يمر عبر تثبيت هذه الشراكة.
العلاقة الاستراتيجية بين قسد وواشنطن
لم تعد العلاقة مقتصرة على الدعم العسكري. بل انتقلت إلى تعاون مؤسساتي يشمل: الاستشارات السياسية، و ملفات الأمن الداخلي، و إدارة الحدود،
التدريب الاستخباري، ومشاركات شبه دبلوماسية في بعض الاجتماعات غير المعلنة.
زيارة الشرع لم تكن لتحدث أثرها لولا أن واشنطن كانت قد وصلت – فعلياً – إلى قرار بترسيخ هذه العلاقة.
انفتاح دمشق الجديدة
على الحوار مع القوى الكردية
السلطة الانتقالية في دمشق تدرك أن استعادة الاستقرار السياسي لا يمكن أن يتم دون تفاهم مع القوى الكردية. فهي قوة تملك: ( الأرض، السكان،
الموارد، والتحالف الدولي.) وهذا جعل الحوار بين دمشق وقسد ضرورة سياسية، لا خياراً تكتيكياً. و زيارة الشرع قدمت “الاعتراف الدولي اللازم” لانطلاق هذا الحوار.
إدخال القوى الكردية في المعادلة الإقليمية
قبل الزيارة، كانت أنقرة تعمل جاهدة على إبقاء القوى الكردية خارج أي مسار دولي. لكن واشنطن قلبت المعادلة: و اعترفت بدمشق الجديدة. و دعَت إلى حوار يشمل الكرد. و رفضت أي تدخل عسكري تركي.
واعتبرت الملف الكردي جزءاً من مستقبل سوريا السياسي. وهنا بدأ الذعر التركي.
الفصل الخامس:
تركيا في قلب العاصفة – الارتباك الاستراتيجي
لا يمكن فهم الارتباك التركي إلا من خلال تحليل البنية الداخلية للنظام السياسي التركي نفسه. فتركيا تُدار اليوم عبر مزيج من:
العدالة والتنمية (حزب أردوغان)،
الحركة القومية (بهتشلي)،
مؤسسة الأمن والاستخبارات،
الجيش الذي عاد بدور غير مباشر.
كل طرف من هذه الأطراف يرى في التطورات الجديدة تهديداً مختلفاً:
أردوغان:
الخوف من فقدان السيطرة على الملف الكردي
أدرك أردوغان أن زيارة الشرع إلى واشنطن أعادت فتح الملفات التي كان يحاول إغلاقها بالقوة:( ملف الهوية الكردية، ملف اللغة، ملف اللامركزية، وفي مقدمتها ملف عبدالله أوجلان) . تركيا ترى أن أي تفاوض أمريكي – سوري – كردي، يعني انتزاع ملف أوجلان (وساحة القرار الكردي) من يدها. ولهذا لم يكن غريباً أن يتردد أردوغان في إطلاق أي مبادرة جديدة، خشية أن تبدو تركيا “أضعف” مما كانت عليه.
الحركة القومية:
الخوف من انهيار الخطاب القومي التركي
دولت بهتشلي أدرك سريعاً خطورة ما حدث.
ولذلك أعلن تهديده الصريح بزيارة أوجلان في سجنه قائلاً: ( إن لم تذهبوا أنتم… فسأذهب أنا! )
هذا التصريح كان صادماً لأنه يكشف أن القيادة القومية تخشى فقدان السيطرة الرمزية على “العقدة الكردية”. بل ظهر في الأوساط القومية ما يشبه ( الإحساس بأن تركيا تُدار من الخارج ) مع صعود القوى الكردية إقليمياً.
المؤسسة الأمنية: الخوف من الفيدرالية شرق الفرات
الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التركية ركزت منذ سنوات على منع أي كيان كردي موحد على حدود تركيا. لكن زيارة الشرع وما تبعها من رسائل أمريكية – أوروبية جعلت هذه الأجهزة تدرك أن: الفيدرالية باتت احتمالاً حقيقياً، ودمشق قد تقبل بها تحت ضغط دولي، وواشنطن تراها أداة لتثبيت نفوذها ولسحب تركيا من الملف السوري.
لهذا بدأت المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه:
عملية عسكرية جديدة (لكن واشنطن منعتها)، أو تفاهم سياسي جديد (لكن أنقرة مترددة)، أو انتظار الانتخابات (لكن الوقت ينفد).
الفصل السادس:
ملف عبدالله أوجلان ودوره الجديد في الحسابات التركية – السورية – الدولية
يُعتبر ملف عبدالله أوجلان واحدة من أعقد القضايا في الداخل التركي. إلا أن زيارة الشرع إلى واشنطن أعادت وضع هذا الملف في قلب التوازنات السياسية، لثلاثة أسباب:
لأن أوجلان يمثل المفتاح السياسي للمعضلة الكردية داخل تركيا
على الرغم من أنه معتقل منذ أكثر من عقدين، إلا أنه لا يزال يتمتع بنفوذ رمزي وفكري هائل داخل الحركة الكردية. وهذا يعني أن أي حل سياسي كردي – سواء في تركيا أو سوريا – لا يمكن أن يُستكمل دون أن يكون أوجلان جزءاً منه، بشكل مباشر أو غير مباشر.
واشنطن تدرك ذلك، ودمشق تدرك ذلك، وحتى أردوغان يدركه لكنه يحاول الهروب منه.
لأن أي حوار سوري – كردي سيعيد إنتاج أفكار أوجلان بنسخة سورية
من أبرز ما يقلق تركيا هو أن القوى الكردية في سوريا تعتمد فكرياً على فلسفة “الأمة الديمقراطية” التي وضعها أوجلان. تطوير هذه الفكرة في سوريا، واعتبارها أساساً لنموذج اللامركزية، يعني: نموذجاً سياسياً كردياً مستقراً، غير عدائي للغرب، مدعوماً من واشنطن،
وقادراً على التفاوض مع دمشق. هذا النموذج تخشاه تركيا لأنه يمكن أن ينعكس مستقبلاً على أكراد تركيا.
لأن اعتراف واشنطن بالشرع يعني اعترافها بنموذج سياسي جديد يمكن أن يلامس مستقبل أوجلان
ليس بالضرورة أن يكون ذلك بشكل مباشر، لكن: إذا جلست واشنطن مع دمشق، وجلست دمشق مع الكرد، وجلست القوى الكردية على الطاولة الدولية…
فسؤال “مصير أوجلان” سيظهر آجلاً أو عاجلاً، ولو تحت عنوان “المصالحة الوطنية”. وهنا تكمن حساسية اللحظة بالنسبة لتركيا.
الفصل السابع:
الضغوط التي تشعر بها أنقرة
لماذا يشعر الأتراك بأن الوقت ينفد؟
بعد زيارة الشرع، تحركت أربع ساعات رملية في الداخل التركي، وكل ساعة منها تضغط على الحكومة:
الساعة الأمريكية
واشنطن أعادت ترسيم سياستها تجاه شرق الفرات: لا انسحاب أمريكي، لا تفكيك لقسد، لا ضوء أخضر لأي عملية تركية، دعم مسار سياسي يشمل القوى الكردية.
الساعة السورية
دمشق الجديدة تبحث عن اعتراف إقليمي.
السؤال: هل تمنح تركيا هذا الاعتراف؟ أم تتركه لإيران وروسيا وواشنطن؟ تركيا تدرك أنها قد تصبح “خارج الصفقة السورية”.
الساعة الكردية
القوى الكردية تشعر بأنها في أفضل لحظة سياسية منذ 2014. وهذا يعني أن: قدرتها على المناورة عالية،
فرصها في اعتراف دولي أكبر، ومخاوف تركيا تتوسع.
الساعة الداخلية التركية (الانتخابات)
أي تنازل لدمشق أو للكرد سيؤثر على الرصيد الانتخابي للعدالة والتنمية. لكن أي تصعيد عسكري سيصطدم بالخطوط الأمريكية. هكذا تجد تركيا نفسها أمام
مفارقة تاريخية:
لا يمكنها التقدم… ولا يمكنها التراجع.

