عباس عبدالرزاق
على مدى السنوات الخمس الماضية، تحوّل حقل خورمور للغاز في إقليم كردستان العراق من مشروع اقتصادي واعد إلى واحد من أكثر الملفات حساسية في معادلة الأمن الإقليمي. فالهجمات المتكررة التي استهدفت الحقل بطائرات مسيّرة، وآخرها الهجوم الذي أدى إلى اندلاع حريق كبير وتعطّل الإمدادات باتجاه محطات الكهرباء، تكشف عن حقيقة أكثر عمقًا من مجرد “عمل تخريبي” أو “حادث أمني”. نحن أمام تحوّل استراتيجي في شكل الصراع على موارد الطاقة، حيث بات الغاز نفسه جزءًا من لعبة النفوذ التي تعبر الحدود ولا تنفصل عن السياسة والاقتصاد والأمن الدولي.
أهمية خورمور… القلب الذي يضخ الكهرباء
يمثل حقل خورمور اليوم الركيزة الأساسية لتوليد الكهرباء في كردستان. فالحقل يغذي أكثر من 60% من محطات الطاقة الغازية في الإقليم، ما يجعل أي توقف—even لساعات—قادرًا على إرباك الشبكة الكهربائية وخلق ضغط اجتماعي وسياسي على حكومة الإقليم.
خلال السنوات الماضية، شهدت المنطقة توسعاً كبيراً في مشروع KM250 الذي يهدف إلى مضاعفة الإنتاج، ما جعل الحقل ليس فقط “مرفقًا للطاقة”، بل مركزًا حيويًا يرتبط مباشرة باستقرار الحياة اليومية للسكان. ومن هنا يصبح ضربه ليس ضربة اقتصادية فحسب، بل ضربة في صميم الأمن المجتمعي.
لماذا خورمور؟ ولماذا الآن؟
ليس سرًا أن الحقل يقع في منطقة تتقاطع فيها مصالح ثلاث قوى رئيسية:
-
الحكومة الاتحادية في بغداد
-
حكومة إقليم كردستان
-
لاعبون إقليميون يعتبرون أي توسع اقتصادي مستقل للإقليم تهديدًا مباشرًا لنفوذهم
ولأن الغاز أصبح عنصرًا نادرًا ومكلفًا في المعادلة الدولية منذ الحرب الروسية–الأوكرانية، فقد أصبح استهدافه أداة ضغط فعالة. فالجهة التي تملك القدرة على تعطيل الإنتاج تمتلك القدرة على إرسال رسالة سياسية “من خارج النص”، دون الحاجة إلى إعلان مسؤولية أو خوض مواجهة مباشرة.
هجمات الطائرات المسيّرة تحديدًا تكشف عن مستوى احتراف تقني، وتدل على أن الجهة المنفذة تسعى لتوجيه ضربة محسوبة، لا لخلق فوضى كاملة، بل لإظهار القدرة على التعطيل حين تشاء.
بين بغداد وأربيل: الطاقة كأداة تفاوض
جزء من التعقيد يكمن في الإطار الدستوري والقانوني لقطاع النفط والغاز في العراق. فالخلاف المزمن بين بغداد وأربيل حول من يملك حق إدارة الموارد، ومن يوقّع العقود، ومن يبيع الإنتاج، جعل الحقل موقعًا مفتوحًا للتجاذبات السياسية.
وفي كل مرة يتصاعد التوتر بين الحكومتين، يظهر ملف خورمور في الواجهة، إمّا عبر الضغط المالي، أو عبر الهجمات الأمنية، أو من خلال محاولات إعادة تعريف العلاقة الاقتصادية بين المركز والإقليم.
الهجوم الأخير جاء في وقت يسعى فيه الطرفان إلى صياغة اتفاق جديد للطاقة، ويتزامن كذلك مع تطورات إقليمية كبيرة بينها الاتفاق التركي–العراقي الجديد حول المياه والطاقة، وصعود أهمية الممرّات الاقتصادية الإقليمية. لذلك يبدو واضحًا أن الرسالة تتجاوز حدود الساحة المحلية، لتصل إلى معادلات أكبر.
العمالة الأجنبية والاقتصاد المحلي… تأثيرات تتجاوز اللحظة
شركة دانة غاز وكريسينت بتروليوم—وهما المشغّلتان الرئيسيتان لخورمور—واجهتا تحديات أمنية أدت إلى وقف التوسعة أكثر من مرة. هذا التوقف له تبعات اقتصادية مباشرة:
تراجع قدرة الإقليم على زيادة الإنتاج ، تأخير مشاريع الكهرباء الجديدة و هروب الاستثمارات طويلة الأمد و ارتفاع تكلفة إنتاج الطاقة وتعرفة الكهرباء
ولا يقف التأثير عند حدود الاقتصاد؛ فـالعمالة الأجنبية التي تدير وتشغّل الحقل باتت تتردد في العودة بعد كل هجوم، ما يخلق فجوة فنية يصعب سدّها محليًا في الوقت الحالي، ويجعل الإقليم في حالة “اعتماد تقني” على الشركات الخارجية.
تحول الغاز إلى ورقة نفوذ إقليمي
الهجمات على خورمور ليست معزولة عن البيئة الإقليمية. فمن الواضح أن الغاز أصبح جزءًا من أوراق النفوذ بين الدول، تمامًا كما تحوّل النفط إلى أداة ضغط سياسي قبل عقود.
إيران، وتركيا، وسوريا، والولايات المتحدة… كلها أطراف تملك مصالح مباشرة أو غير مباشرة في مستقبل الغاز في كردستان. البعض يريد احتواء توسع الإقليم الاقتصادي، والبعض الآخر يريد ضمان تدفق الغاز إلى حدوده، فيما آخرون يرون أن استقرار الحقل يقوّي نفوذ خصومهم.
هذه التركيبة المعقدة تجعل خورمور أكثر من مجرد منشأة اقتصادية؛ إنه “عقدة” في شبكة مصالح تمتد من الخليج إلى البحر المتوسط.
أمن الطاقة… الحلقة الأضعف في كردستان
يعتمد الإقليم بصورة شبه كاملة على الغاز المحلي لتشغيل محطات الكهرباء. وهذا الاعتماد، رغم أنه يقلّل كلفة الإنتاج، يجعله مكشوفًا أمام أي تهديد. إذ يمكن لطائرة مسيّرة واحدة أو صاروخ بدائي أن يؤدي إلى:
-
انقطاع الكهرباء بشكل واسع
-
خسائر مالية بملايين الدولارات
-
هروب العمالة الفنية
-
توقف عمليات التطوير
-
ارتفاع أسعار الوقود البديل (الديزل)
بهذا المعنى، يمكن القول إن أمن الطاقة في كردستان لم يعد مسألة تقنية بل بات قضية سياسية–أمنية من الدرجة الأولى.
ماذا يعني هذا للمستقبل؟
أولًا: إن استمرار الهجمات سيجبر الشركات على إعادة حساباتها، وربما يشجعها على طلب حماية عسكرية أكبر، ما سيحوّل الحقل إلى منطقة عسكرية أشبه بـ“منشآت النفط السعودية” التي صارت تحظى بحماية متعددة الطبقات.
ثانيًا: سيدفع الإقليم للتفكير في تنويع مصادر الطاقة، خصوصًا الطاقة الشمسية والربط الكهربائي مع دول الجوار. لكن هذا يحتاج سنوات من الاستثمار وخططًا غير متوفرة بالكامل حتى الآن.
ثالثًا: قد يتحول ملف خورمور إلى “ورقة تفاوض” دائمة بين أربيل وبغداد، وربما عنصرًا أساسيًا في أي اتفاق مستقبلي حول قانون النفط والغاز الاتحادي.
رابعًا: سيضغط المجتمع الدولي—خصوصًا الولايات المتحدة والإمارات—لمنع انهيار المشروع، لأن خورمور يمثل بالنسبة لهم “نقطة ارتكاز” في استقرار الإقليم.
الخلاصة:
الغاز ليس مجرد طاقة… إنه سياسة

